وصل وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأحد إلى تركيا في زيارة تستمر ليومين وهي الأولى له منذ توليه منصبه منذ أكثر من عامين. على الرغم من أن الزيارة كانت مُجدولة منذ وقت، إلآّ أن الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا في السادس من فبراير شباط، سيُشكل مناسبة للضيف الأمريكي لإظهار الدعم لتركيا بعد الكارثة وهو أمر يُساعد بلينكن في ترطيب الأجواء من أنقرة وإجراء مناقشات ودية معها في القضايا الخلافية العميقة. منذ الساعات الأولى لوقوع الزلزال، أعرب الرئيس الأمريكي جو بايدن بسرعة عن تعازيه لتركيا ووعد بتقديم مساعدات منسقة لها من خلال فريق الاستجابة للمساعدة في حالات الكوارث التابع للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. في حين أن الظروف المعقدة التي طرأت على العلاقات التركية الأمريكية منذ النصف الثاني من العقد الماضي لم تُساعد في إجراء حوارات بناءة بين البلدين في بعض القضايا الخلافية، فإن الزلزال منح فرصة لدبلوماسية الكوارث لفتح مسارات جديدة للحوار. لطالما اشتكت أنقرة بأن حلفاءها الغربيون لم يُظهروا روح الشراكة والتضامن معها في بعض التحديات الكبرى التي واجهتها في السنوات الماضية خصوصاً بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة في عام 2016، لكن كارثة الزلزل تُشكل فرصة تاريخية لواشنطن والدول الغربية الأخرى للتعامل مع تركيا وإظهار التضامن معها.
مع ذلك، ينبغي تجنب وضع رهانات كبيرة في أن تؤدي زيارة بلينكن إلى إحداث خرق جوهري في مسار العلاقات. لكن الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة لأنقرة بعد الزلزال والخطوات الأخرى التي يُمكن أن تقوم بها في المستقبل بهذا الخصوص يُمكن أن تُساعد في إرساء أرضية جديدة للعلاقات بين البلدين. يمكن للولايات المتحدة أن تتخذ خطوة إيجابية أخرى من خلال تمرير قرار تعازي في الكونغرس. في أكتوبر 1999، أصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً يعبر عن تعاطفه مع القتلى والجرحى في الزلازل التي ضربت تركيا واليونان في ذلك العام. كان بايدن أحد رعاة هذا القرار عندما كان سينارتوراً. قبل أسبوعين، عُرض مشروع قررا مماثل في مجلس النواب الأمريكي وأحيل إلى لجنة الشؤون الخارجية. لدى واشنطن فرصة الآن لإظهار مزيد من الدعم من خلال تقديم مساعدات اقتصادية لتعافي تركيا من كارثة الزلزال. حقيقة أن زيارة بلينكن تأتي في ظل ظروف استثنائية تمر بها العلاقات التركية الغربية في ضوء مشكلة ضم فنلندا والسويد إلى حلف الناتو ومساعي تركيا للحصول على مقاتلات إف ستة عشر من الولايات المتحدة لتحديث أسطولها الجوي، فضلاً عن التأثير المتزايد لقضية الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية على العلاقات مع أنقرة، تجعل من هذه الزيارة فرصة استثنائية لنقل الحوار بين أنقرة وواشنطن إلى مستوى أكثر إنتاجية من السابق.
مع أن زيارة بلينكن لتركيا تأخرت كثيرا، إلآ أنها تشكل فرصة لإجراء حوار بناء حول القضايا الخلافية. في حين أن الظروف المعقدة التي طرأت على العلاقات التركية الأمريكية في السنوات الأخيرة لم تساعد في حوار بناء، فإن الزلزال يمنح فرصة لدبلوماسية الكوارث لفتح مسار جديد.
في الفترة التي أعقبت تولي الرئيس بايدن السلطة، حصلت بعض التطورات الإيجابية على العلاقات التركية الأمريكية وعقد بايدن سلسلة من الاجتماعات مع الرئيس رجب طيب أردوغان أثمرت خرقاً في بعض القضايا لا سيما ملف مقاتلات إف ستة عشر. كما أدى موقف تركيا المتوازن في الحرب الروسية الأوكرانية ودعمها لكييف بطائرات مسيرة إلى تعظيم أهميتها الجيوسياسية بالنسبة للغرب. مع ذلك، لم تؤدي هذه التطورات حتى الآن إلى تعافي العلاقات ويرجع السبب في ذلك إلى أن حجم القضايا الخلافية مُعقد بما يكفي ويحتاج لمزيد من الحوارات ورفعها إلى مستويات كبيرة. في الواقع، تأخرت إدارة بايدن للغاية في إيفاد وزير خارجيتها إلى تركيا حيث أنها جاءت بعد عامين من توليه منصبه في تناقض واضح مع بعض وزراء الخارجية السابقين، بمن فيهم هيلاري كلينتون وريكس تيلرسون، الذين قاموا بالزيارة في غضون أول ثلاثة أشهر من توليهم مناصبهم. هذا التأخير يظهر الطبيعة المتوترة للعلاقة بين البلدين والتي تدهورت بشكل خاص منذ عام 2019 عندما حصلت أنقرة على أنظمة دفاع صاروخي روسية. على الرغم من إشادة الولايات المتحدة بتركيا لبعض سياساتها في الحرب الروسية الأوكرانية، إلآّ أنها لا تزال قلقة بشأن العلاقات الوثيقة التي عززها أردوغان وبوتين بعد الحرب لاسيما في المجالات الجيوسياسية والاقتصادية.
- ماذا تعني عودة ترامب للحرب في المنطقة؟
- لماذا يُفضل أردوغان ترامب على هاريس؟
- التقارب التركي المصري من منظور إقليمي
- تضاؤل فرص صفقة غزة يُعقد خيارات إيران
- حسابات إيران الصعبة في الرد على اغتيال هنية
بمعزل عن القضايا الخلافية الكثيرة المطروحة على الطاولة في زيارة بلينكن لتركيا، إلآّ أن الأولوية يجب أن تكون في هذه الفترة إلى إظهار النوايا الإيجابية من جانب الولايات المتحدة. إلى جانب أهمية الدعم الأمريكي لتركيا بعد الزلزال، يتوجب على الوزير الأمريكي إعطاء تأكيدات للمسؤولين الأتراك بجدية بلاده في بيع أنقرة مقاتلات أف ستة عشر. خلال الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو إلى واشنطن الشهر الماضي، ورد أن إدارة بايدن اشترطت على تركيا تسهيل بيعها هذه المقاتلات مقابل مصادقتها على انضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو. في حين أنه يبنغي فصل القضيتين عن بعضهما البعض، إلآّ أن مثل هذه الاشتراطات لن تؤدي سوى إلى إفساد محاولات خلق نهج جديد في الحوار التركي الأمريكي. لدى تركيا هواجس مشروعة من موقف السويد على وجه التحديد إزاء المنظمات التي تصنفها تركيا إرهابية، وكان بمقدور واشنطن أن تمارس الضغط على ستوكهولم وتشجيعها على تلبية الشروط التركية. بأي حال، من المستبعد في الوقت الراهن أن يحدث خرق في مسار توسيع الناتو بالنظر إلى انشغال تركيا في تداعيات الزلزال والاستعداد للانتخابات المقبلة.
يبرز الملف السوري كإحدى القضايا الخلافية بين أنقرة وواشنطن، والتي تعقدت بشكل إضافي بعد انعطافة تركيا في الحوار مع النظام السوري لإعادة إصلاح العلاقات. لا تزال الولايات المتحدة غير مستعدة لإنهاء علاقاتها بوحدات حماية الشعب الكردية، لكن بعض الخطوات المهمة التي يُمكن ان تقوم بها في هذه المسألة سوف تُساعد في تهدئة حدة الخلاف. كبادرة إيجابية، يُمكن لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن يطرح على المسؤولين الأتراك في الزيارة التوسط في رعاية اتفاق جديد بين تركيا والوحدات الكردية يؤدي إلى معالجة هواجس أنقرة الأمنية بما يشمل إخراج الوحدات الكردية من المناطق التي طرحتها أنقرة وهي عين العرب كوباني ومنبج وتل رفعت. لقد سبق لبايدن عندما كان نائباً للرئيس في إدارة باراك أوباما أن أشرف على التفاهمات السابقة بين أنقرة وواشنطن بهذا الخصوص، ويُمكن إعادة تفعيلها الآن. تمكن مشكلة عدم نجاح تلك التفاهمات في أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لم تنفذ تعهداتها لتركيا، لكن الحاجة الأمريكية اليوم إلى خطب ود أنقرة في قضايا توسيع الناتو والحرب الروسية الأوكرانية تجعل من الضروري الإقدام على خطوات مهمة تُعالج هواجس تركيا إزاء العلاقة الأمريكية بالوحدات الكردية السورية.