التقارب التركي المصري من منظور إقليمي

يوجد التقارب التركي المصري ديناميكيات إقليمية جديدة ويُشكل إحدى نتائج المراجعة الشاملة للسياسات التي انتهجتها أنقرة مع العالم العربي خلال العقد الماضي. مع ذلك، فإن الرهانات على أثار الحقبة الجديدة بين تركيا ومصر على الوضع الإقليمي ينبغي أن تستند على توقّعات قابلة للتحقيق.

توجّت الزيارة، التي أجراها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى أنقرة في 4 سبتمبر أيلول الجاري، الحقبة الجديدة في العلاقات التركية المصرية مع تدشين مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين وتوقيع 17 اتفاقية في مجالات مُتعددة. وقد أعرب الرئيسان السيسي ورجب طيب أردوغان عن رغبتهما في تطوير العلاقات الجديدة إلى التعاون في القضايا الإقليمية. إن تحديد رفع مستوى التبادل التجاري السنوي بين البلدين من 10 مليارات دولار أمريكي إلى 15 مليار دولار وتطوير التعاون الثنائي في مجال الطاقة والمشاريع الاستثمارية المتبادلة كأهداف في المستقبل المنظور، يظهران المجالات القابلة للتطور السريع في العلاقات الجديدة. وعلى الرغم من أن الاتفاقيات المُبرمة لم تشمل مجال التعاون الدفاعي، إلآّ أنه يظهر أيضاً كهدف مُشترك. مع ذلك، فإن من بين الأسئلة الأكثر أهمية حول العلاقات الجديدة، تتمحور حول آثارها على المنطقة والمدى الذي يُمكن أن يصله البلدان في مواءمة سياساتهما الإقليمية خصوصاً في القضايا التي ينخرطان فيها بقوة مثل الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط والأزمة الليبية والقرن الإفريقي.

كان لأزمة العقد الماضي بين تركيا ومصر آثار كبيرة على الإقليم رغم أنها كانت نتيجة للاضطرابات الكبيرة التي عصفت بالمنطقة بعد اندلاع “الربيع العربي” مطلع العقد الماضي، والتي أثارت عوامل اللاستقرار فيها على نطاق واسع. مع ذلك، شكلت الأزمة التركية المصرية منذ عام 2013 على نحو خاص أرضية خصبة لنمو عوامل اللاستقرار الإقليمي، بحيث لم تعد الديناميكيات المُحركة للأزمة تقتصر على معارضة أنقرة لإطاحة الجيش المصري بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي واحتضانها لقادة جماعة الإخوان المسلمين المصرية على أراضيها، بل أضيف عليها عامل الاستقطاب الإقليمي الذي تمثّل بانخراط أنقرة والقاهرة في محورين إقليميين متصارعين. ويُمكن النظر إلى اضطراب علاقات تركيا مع كل من الإمارات والسعودية وانخراط أنقرة والقاهرة بالوكالة في الصراع الليبي، والأزمة الخليجية وتصاعد الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط على أنها المظاهر القوية لتأثير عامل المنافسة الإقليمية في تعميق الأزمة.

حتى عام 2019، ظلت تركيا ومصر تُديران أزمتهما وانخراطهما في سياسة المنافسة الإقليمية بطريقة مُنضبطة. لكن انخراطهما العسكري في الصراع الليبي منذ تلك الفترة رفع مخاطر المنافسة بينهما إلى مستويات حرجة. وقد شكلت هذه المخاطر دافعاٌ قوياً للبلدين للتراجع عن سياسة حافة الهاوية وإعادة تشكيل الأزمة من منظور الحاجة إلى الحد من المخاطر والبحث عن فرص لكسر الحلقة المفرغة في علاقاتهما. وبالنظر إلى التأثير الكبير لعامل المنافسة الإقليمية في إطالة أمد الأزمة التركية المصرية لما يقرب من عقد، فإن التحولات الكبيرة، التي طرأت على السياسات الإقليمية منذ مطلع العقد الماضي، بدأت تُقوض بشكل تدريجي من تأثير عامل المنافسة الإقليمية على ديناميكيات الأزمة. لقد ساعدت المصالحة بين تركيا والإمارات بعد زيارة الشيخ محمد بن زايد إلى أنقرة في نوفمبر تشرين الثاني عام 2021، ثم حل الأزمة الخليجية بعد نحو شهرين في توفير ظروف مناسبة لتدشين مشروع المصالحة بين أنقرة والقاهرة.

مع ذلك، تظهر عوامل رئيسية أخرى أدّت إلى خلق ديناميكيات جديدة بين تركيا ومصر منذ مطلع العقد الحالي. حقيقة أن الرهان التركي خلال العقد الماضي على صعود تيار الإسلام السياسي في المنطقة أصيب بانتكاسة كبيرة بعد الإطاحة بحكم الإخوان في مصر ثم التدخل العسكري الروسي، الذي أدى لتغيير موازين الصراع لصالح النظام في سوريا منذ النصف الثاني من العقد الماضي، والعزلة التي بدأت تركيا تواجهها في معادلة شرق البحر المتوسط، عملت جميعها كمُحفز قوي للرئيس رجب طيب أردوغان لإحداث مراجعة واسعة النطاق للسياسة التي تبناها في المنطقة العربية بعد مطلع العقد الحالي. وقد أثمرت هذه المراجعة المصالحة التركية مع الإمارات ثم السعودية، ولاحقاً مصر، فضلاً عن التحول الكبير الذي طرأ على العلاقات التركية العراقية منذ زيارة أردوغان إلى بغداد في أبريل نيسان الماضي، وإطلاق مسار المفاوضات مع النظام في سوريا لإعادة تطبيع العلاقات. ويُمكن القول إن العلاقات التركية العربية تجاوزت أشواطاً كبيرة في حقبة ما بعد التطبيع. 

قبل تقييم الآثار المُحتملة للتقارب التركي المصري على المنطقة، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار ثلاثة عوامل ساهمت في نقل علاقات تركيا مع القوى العربية الفاعلة من حقبة المنافسة والخصومة إلى حقبة التطبيع. يظهر خفض التصعيد الإقليمي الواسع النطاق، الذي برز مع وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض مطلع العقد الحالي كعامل مؤثر في هذا السياق. ويتمثل العامل الثاني في حاجة أنقرة وهذه القوى إلى التخلص من حقبة المنافسة التي استنزفت إمكاناتهم العسكرية والاقتصادية وقوضت فرص التعاون فيما بينها للحد من آثار الصراعات الإقليمية على علاقاتها ومصالحها الإقليمية. ويتمثل العامل الثالث في عدم فعالية الجهات الفاعلة العالمية في معالجة الصراعات المزمنة والمُستجدة في المنطقة على غرار الصراعات في سوريا وليبيا والسودان والقرن الإفريقي ومؤخراً حرب السابع من أكتوبر وارتداداتها الإقليمية. وهذه الحقيقة أظهرت حاجة القوى الفاعلة في المنطقة إلى التعاون فيما بينها للتعامل مع هذه الصراعات.

وفي حالة تركيا ومصر، فإن الرهانات على آثار الحقبة الجديدة إن على مستوى آثارها على العلاقات البينية أو على مستوى القضايا الإقليمية التي ينخرط البلدان فيها ينبغي أن تكون واقعية. ولا يرجع ذلك إلى حقيقة أن مشروع الشراكة الاستراتيجية في طور النمو وسيستغرق وقتاً طويلاً قبل اتضاح آثاره الاستراتيجية العميقة فحسب، بل أيضاً إلى التحديات الكبيرة التي تواجه عملية مواءمة سياسات البلدين بشكل فعال في هذه القضايا. وفي ضوء ذلك، تظهر المجالات القابلة للتطور السريع كهدف واقعي في المستقبل المنظور. ويبرز الانخراط المشترك في مواءمة سياسات البلدين في ليبيا لنقل الصراع إلى مرحلة الحل وتعزيز التنسيق بين البلدين في القضية الفلسطينية كأهداف قابلة للتطبيق في المستقبل المنظور. وعلى الرغم من أهمية الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط كركيزة أساسية في ديناميكيات العلاقات التركية المصرية، فإنه من غير المتصور أن يتمكن البلدان من مواءمة سياساتهما تماماً في هذه القضية بالنظر إلى تعقيدات ديناميكيتها. وقد تكون هدفاً قابل للتطبيق على المدى البعيد. 

علاوة على ذلك، تبرز المنافسة الجيوسياسية في القرن الإفريقي كأحد المجالات التي يُمكن لتركيا ومصر تحقيق تعاون تنافسي فيها بالنظر إلى الأرضية المشتركة التي تجمعهما والمتمثلة في دعم الصومال في مواجهة الطموحات الإقليمية لإثيوبيا. لقد حرمت أزمة العقد تركيا ومصر من الكثير من الفرص لبناء شراكة استراتيجية كان بمقدورها أن تعظم مصالحهما الوطنية في لحظة اضطراب إقليمي غيرت وجه المنطقة وتجعلهما أكثر فعالية وتأثيرا في تشكيل الصراعات المؤثرة عليهما وأقل تأثرا بسياسات القوى الإقليمية والدولية في هذه الصراعات. لكن الوضع الجديد الناشئ بينهما يمكن أن يقلص الفترة الزمنية لتعويض الفرص الضائعة إذا ما استطاعا الاستفادة من دروس تجربة أزمة العقد وإدارة العلاقة الجديدة من منظور يرتكز على نهج الربح المتبادل وإيجاد الفرص بدلا من تقويضها وتغليب التعاون التنافسي.

إقرأ أيضاً: