رفع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من حدّة خطابه ضد إسرائيل عندما ألمح للمرة الأولى إلى إمكانية الانخراط العسكري لبلاده في الحرب الراهنة على غرار ما فعلته في ليبيا وإقليم قره باغ في السنوات الماضية. حقيقة أن هذا التلميح جاء في سياق حديث أردوغان عن حاجة تركيا إلى تعزيز قدراتها العسكرية من أجل ردع إسرائيل عن ممارستها العدوانية بحق الفلسطينيين، تُشير إلى أن الدافع الرئيسي له هو استعراض القوة بقدر أكبر من جدّية الطرح. يُظهر السياق المتدرج للسياسة، التي انتهجتها أنقرة تجاه تل أبيب منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر، الهوة الواسعة بين الخطاب القوي، الذي لا يلتزم بحدود مُعينة في التعبير عن إدانة إسرائيل وتجريمها، وبين السياسة المُمارسة على أرض الواقع.
والدور المؤثر للسياسة الداخلية والمزايدات بين الحكومة وبعض أحزاب المعارضة في القضية الفلسطينية، في تشكيل خطاب أردوغان تجاه إسرائيل في هذه الحرب، يُظهر جانباً رئيسياً من دوافع ووظيفة هذا الخطاب. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار دور الدبلوماسية، المُصممة للموازنة بين فوائد وتكاليف الخطاب ولتعظيم فرص تركيا في لعب دور أكثر فعالية في الصراع، نستطيع أن نُفسر تلك الهوة بين الخطاب والمُمارسة السياسية ودورهما التكاملي في تشكيل السياسة التركية إزاء إسرائيل. مع ذلك، فإن السقف التصعيدي المفتوح لخطاب أردوغان يُظهر الكيفية التي يعمل بها استمرار الحرب على غزة وتصاعد المخاطر الإقليمية المرتبطة بها على تعميق التوترات بين أنقرة وتل أبيب إلى مستوى يُنذر بتدمير ما تبقى من هذه العلاقات خصوصاً في الجانب الدبلوماسي الذي لا يزال صامداً حتى الآن.
يظهر تلويح أردوغان بالتدخل العسكري في الصراع على أنه مُصمم في جانب لأغراض السياسة الداخلية وفي جانب آخر لإظهار استعداد تركيا للقيام بخطوات غير تقليدية عندما تستدعي الحاجة ذلك خصوصاً أن السياق الإقليمي لحرب السابع من أكتوبر يعمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط، فضلاً عن تحذير إسرائيل والغرب من أن إطالة أمد الحرب ونشرها في المنطقة بشكل أعمق وأكثر خطورة، يُمكن أن يُفجر حرب إقليمية شاملة مُتعددة الأطراف ولا تقتصر على إسرائيل والمحور الإيراني. علاوة على ذلك، فإن إخفاق رهان أردوغان على الدبلوماسية لتعظيم حضور تركيا في جهود إنهاء الصراع يعمل كمُحفز آخر له لتصعيد الخطاب كوسيلة تحذير لتل أبيب وواشنطن من أن عدم إشراك أنقرة بشكل فعال في الجهود الدبلوماسية وفي مشروع ترتيبات اليوم التالي لغزة والقضية الفلسطينية بعد الحرب، يدفعها إلى إحداث تغيير جذري في تموضعها إزاء الصراع.
إن إشارة أردوغان إلى التدخل العسكري التركي في قره باغ وليبيا كنموذج لأي دور عسكري مُحتمل لها في الحرب الحالية يُقلل في الواقع من جدية هذا الطرح. ففي ليبيا وقره باغ، تدخلت تركيا عسكرياً بناءاً على طلبات من الحكومة الليبية المُعترف بها دولياً آنذاك ومن أذربيجان، بينما تظهر صعوبة تكرار مثل هذا التدخل في الحالة الفلسطينية إذ من غير المتصور أن تطلب السلطة الفلسطينية المُعترف بها دولياً كجهة مُمثلة للفلسطينيين تدخلاً عسكرياً تركياً لدعم الفلسطينيين في الحرب لاعتبارات عديدة. كما أن فكرة الانخراط العسكري في الحرب، علاوة على أنها ستحدث استقطابا كبيرا في الداخل التركي وسيسعى حزب المعارضة الرئيسي إلى توظيفها لزيادة الضغط الداخلي على أردوغان، فإنها تجلب أيضا الكثير من المخاطر على علاقات أنقرة بالغرب والولايات المتحدة خصوصاً وستهدد بشكل كبير جهود أردوغان للتعافي من الصعوبات الاقتصادية التي تُعانيها البلاد في الوقت الراهن.
قد تبدو فكرة الانخراط في الحرب جذابة من حيث تعميق مشاركة تركيا في تشكيل الشرق الأوسط الجديد، لكنّ أي دور عسكري تركي مُحتمل في الصراع من غير المتصور أن يكون خارج سياق ترتيبات اليوم التالي لغزة بعد الحرب. والعوامل المختلفة التي تشكل السياسة التركية في الصراع ستبقى تعمل كمحدد واضح وثابت لها. والحقيقة الثابتة في العلاقات التركية الإسرائيلية بعد أكثر من تسعة أشهر على الحرب أن الطرفين يسعيان إلى إدارة التوترات بينهما لتجنب الوصول إلى نقطة اللاعودة. وحتى في الوقت الذي تدخل فيه هذه التوترات مستوى جديداً أكثر حدّة، فإنه من غير المتصور أن تؤدي إلى تحول جذري في الأولويات التركية الثابتة في الحرب، والتي تتمثل أولاً بتعظيم فرص وقف إطلاق النار في غزة وتجنب اضطراب إقليمي أكثر خطورة، وثانياً بتوسيع الهوامش التي تُساعد أنقرة في لعب دور أكثر فعالية في جهود تسوية الحرب وترتيبات اليوم التالي فلسطينياً، وثالثاً، في الحفاظ على مسافة تحول دون انهيار كامل في العلاقات مع إسرائيل.