قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هذا الشهر إنه قد يُوجه في أية لحظة دعوة لنظيره السوري بشار الأسد لزيارة تركيا من أجل تدشين صفحة جديدة في العلاقات التركية السورية. ولم يصدر حتى لحظة كتابة هذه السطور أي تعليق سوري رسمي على سيل من رسائل التودد من جانب أردوغان للأسد في الآونة الأخيرة، لكنّ استعاضة دمشق عن شرط موافقة أنقرة على وضع جدول زمني لسحب قواتها من سوريا بمطالبتها بإظهار التزام صريح بالانسحاب وبسيادة الأراضي السورية، وتأكيد أردوغان أن بلاده ليست لها نوايا بالتدخل في الشؤون الداخلية السورية أوجدا هامشاً جديداً للدبلوماسية لتحريك مسار التطبيع مدعوماً بالزخم المستجد للرعاية الروسية لعملية الحوار وبدخول العراق على خط الوساطة. ومن المؤكد أن لقاءاً مُحتملاً بين أردوغان والأسد سواء كان في تركيا أو في بلد آخر، سيُطلق قطار التطبيع، الذي سيُعيد تشكيل الصراع السوري برمته.
مع ذلك، فإن النظر إلى انعطافة أنقرة نحو دمشق على أنّها تُمثّل تحوّلاً جذرياً في الموقف التركي في الصراع يتجاهل حقيقة أن هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، وإنما بدأ ينمو منذ النصف الثاني من العقد الماضي وصولاً إلى هذه النقطة. فقبل هذه الانعطافة، شهدت السياسة التركية تحوّلين بارزين، الأول عندما انخرطت تركيا بشكل مباشر في الصراع في عام 2016 لكبح صعود “وحدات حماية الشعب” الكردية المرتبطة عضوياً وإيديولوجيا بحزب “العمال الكردستاني” التركي المحظور. وكان هذا التحول، الذي غيّر أولويات أنقرة من هدف الإطاحة بنظام الأسد إلى التركيز على مكافحة مخاطر الانفصال الكردي، نتيجة عاملين هما التدخل العسكري الروسي، الذي عكس مسار الحرب لصالح الأسد، والتدخل العسكري الأمريكي الذي أسس تحالفاً مع الوحدات الكردية. وتمثل التحول الثاني بعد ذلك بانخراط أنقرة في منصة أستانة مع روسيا وإيران بهدف نقل الصراع السوري من مرحلة الحرب إلى خفض التصعيد. لذلك، يُمكن النظر إلى هذه الانعطافة على أنها المرحلة الثالثة من تحول السياسة التركية في سوريا، ولكنّها الأكثر تأثيراً.
وتستند هذه التحولات على ثلاثة مُسوغات. الأول، تكيّف تركيا مع التحولات، التي طرأت على مسار الصراع منذ التدخل الروسي وصولاً إلى بروز الحاجة لديها إلى تطوير استراتيجيتها في مكافحة الحالة الانفصالية الكردية في سوريا والعراق من خلال إشراك الحكومات القائمة في البلدين فيها. ويقوم المُسوغ الثاني على حاجة تركيا إلى التوصل لترتيبات مع دمشق لتوفير بيئة مناسبة لإعادة طوعية وآمنة للاجئين السوريين على أراضيها لا سيما أن خطاب الكراهية المتصاعد ضدّهم في تركيا أصبح يُهدد على نحو متزايد بخلق صدام مُجتمعي بين الأتراك والسوريين. وبمعزل عما إذا كانت حوادث الاعتداء العنصرية الأخيرة على السوريين في ولاية قيصري التركية مُرتبطة بسياق تحولات السياسية التركية في سوريا أم لا، إلآّ أنها تُظهر بالفعل هذه المخاطر. أما المُسوغ الثالث فيرتكز على فكرة حاجة تركيا إلى القيام بمبادرات جريئة على غرار التطبيع مع دمشق بهدف خلق مسار يُعزز فرص وضع حد للصراع السوري لا سيما أن المجتمع الدولي لم يعد يُبدي اهتماماً يُذكر بالانخراط في هذا الصراع علاوة على أن بعض الدول العربية البارزة أعادت تطبيع علاقاتها مع دمشق بالتوازي مع إعادة عضوية سوريا للجامعة العربية. وفي غضون ذلك، تعتقد أنقرة أن الحقبة الجديدة من المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى مثل روسيا والولايات المتحدة تخلق فرصة للقوى الفاعلة في الشرق الأوسط للتعاون فيما بينها من أجل معالجة هذا الصراع المزمن.
وانطلاقاً من هذه المُسوغات، تظهر ثلاثة أهداف لانعطافة أنقرة نحو دمشق. ويتمثل الأول بإضفاء شرعية سورية على الوجود العسكري التركي في سوريا والتعاون مع دمشق في تقويض مشروع “الحكم الذاتي” الكردي كبوابة لإعادة تصميم الجانب الأمني في العلاقات التركية السورية المستقبلية. أما الهدف الثاني فيتمثل في توسيع هامش المناورة لدى تركيا في علاقتها بالولايات المتحدة في سوريا واستخدام هذه الانعطافة كورقة ضغط على واشنطن لإجبارها على التخلي عن علاقتها بالوحدات الكردية. بينما يتمثل الهدف الثالث في التوصل إلى تفاهمات مسبقة مع دمشق وموسكو وطهران على ملء أي فراغ يُمكن أن ينشأ إذا ما قررت الولايات المتحدة الانسحاب من سوريا. ويُعزز هذا الدافع الاعتقاد بأن الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر تشرين الثاني المقبل قد تؤدي إلى عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بما يُعزز احتمال حدوث هذا الانسحاب.
إن مشروع التطبيع التركي السوري ـ إن قُدر له الانطلاق فعلاً – سيكون مساراً طويلاً ومليئاً بالألغام وسيفرض تنازلات مؤلمة على الطرفين. بالنسبة لدمشق، فإن الانخراط في هذا المشروع يعني إضفاء شرعية على الوجود العسكري التركي في سوريا حتى لو كان هذا المشروع مُصمم لإنهاء هذا الوجود في المستقبل. وبالنسبة لأنقرة، فإنه يضعها أمام اختبار صعب في العلاقة مع المعارضة والبيئة الحاضنة لها في شمال سوريا وستواجه صعوبة كبيرة في ممارسة نفوذها على هذه البيئة لإقناعها بمزايا الدخول في عملية سياسية مع دمشق لإنهاء الصراع. كما لا يُمكن تجاهل العوامل الأخرى التي ستعمل كضاغط قوي على مشروع التطبيع مثل موقف الولايات المتحدة وهيئة تحرير الشام، التي ستسعى إلى استقطاب المعارضين لأي مصالحة مع النظام وتعزيز صورتها كتنظيم وحيد يعمل من أجل مقاومة مشروع تصفية القضية السورية.
ويتمثل التحدي الأكبر الذي يواجه تركيا في كيفية الحد من آثار مشروع التطبيع على علاقتها بالمعارضة وعلى استقرار المناطق الخاضعة لإدارتها في شمال غرب سوريا. وتُبرز الصدامات التي دخلتها هيئة تحرير الشام مع بعض فصائل المعارضة المنضوية في الجيش الوطني السوري في السابق مخاطر أن تحاول الهيئة استغلال مخاوف البيئة الحاضنة لتركيا من مشروع التطبيع لتوسيع نفوذها في المنطقة.