ما وراء الاحتضان التركي الجديد لحماس

حتى في الوقت الذي تبدو فيه إسرائيل مُحبطة من دور قطر في الوساطة مع حماس، فإن آخر ما يُمكن أن يُفكر به نتنياهو هو مكافأة أردوغان على احتضانه لحماس وخطابه المعادي لإسرائيل بمنحه فرصة للعب دور الوسيط واستعراض مكانته الإقليمية.

عكست الزيارة التي أجراها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية إلى تركيا ولقائه بالرئيس رجب طيب أردوغان مؤشرين مُهمين على صعيد علاقة أنقرة بحماس وعلى صعيد دور تركيا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفيما يتعلق بالمؤشر الأول، يبدو اللقاء بين أردوغان وهنية، وهو الأول بينهما منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر، مُصمم لإظهار مزيد من الاحتضان التركي للحركة. وهذا يقودنا إلى المؤشر الثاني وهو رغبة أنقرة في لعب دور الوسيط الرئيسي بين حماس وإسرائيل للتوصل إلى تسوية لإنهاء الحرب. حقيقة أن الضغط، الذي تتعرض له قطر من قبل إسرائيل وبعض الدوائر الأمريكية في واشنطن بسبب علاقتها بحماس، أثار شكوكاً حول قدرة الدوحة على مواصلة لعب دور الوسيط، خلقت انطباعاً بأن تركيا قد تكون الخيار البديل لها في مجال الوساطة. مع ذلك، قد يكون هذا الانطباع غير واقعي. من المؤكد أن إسرائيل مُحبطة من كون قطر لم تمارس بالنيابة عن تل أبيب وواشنطن ضغطاً على حماس لإقناعها بالقبول بالمقترحات الأمريكية والإسرائيلية لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن. لكنّ ذلك لا يعني بأي حال أن الإسرائيليين يعتقدون أن إدخال تركيا إلى خط الوساطة سيعود عليهم بالفوائد الكبيرة التي لم يحصلوا عليها لسببين، الأول أن أنقرة ليست طرفاً مُحايداً في هذا الصراع تماماً وهي تدعم وجهة نظر حماس بوضوح. والثاني أن آخر ما يُمكن أن يُفكر به نتنياهو هو مكافأة أردوغان على موقفه المُندد بقوة بإسرائيل والداعم لحماس بمنحه فرصة لاستعراض مكانته الإقليمية.

مع ذلك، فإن أردوغان يُراهن على الاحتضان الجديد لحماس للعب دور أكبر في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وليس على نظرة إسرائيل لهذا الدور. إن النظرة التركية إلى حركة حماس تستمد قوتها قبل كل شيء من تعاطف السياسة التركية في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان مع القضية الفلسطينية بشكل عام. لكنّ هذا الاحتضان الجديد في حقبة ما بعد الحرب، وبالنظر إلى أنه يجلب بعض التكاليف المحتملة على علاقات تركيا بإسرائيل والولايات المتحدة، يُفترض أنّه يُحقق فوائد عالية تُعوض هذه التكاليف المحتملة. وإذا قررت حماس إشراك تركيا في ملف الوساطة لمكافئتها على موقفها السياسي، فإنه لن يكون بمقدور إسرائيل أو الولايات المتحدة الاعتراض، لأن الأمر هنا لا يتعلق برفاهية الخيارات. علاوة على ذلك، قد يكون لإسرائيل والولايات المتحدة مصلحة في تعزيز تركيا لتأثيرها على حركة حماس في هذه الفترة، لأن من شأن ذلك أن يخلق وسائل تأثير أخرى على الحركة لإقناعها بالتوصل إلى تسوية لإنهاء الحرب تكون مُرضية للفلسطينيين والإسرائيليين. وإذا كانت إسرائيل تضغط باتجاه إنهاء دور قطر في مجال الوساطة، فإن الخيار الآخر أمام حماس هو مزيد من التقارب مع إيران، وهذه النتيجة بالتأكيد لن تكون مناسبة لإسرائيل ولن تخدم مساعي تل أبيب وواشنطن لعزل الحرب في غزة عن الصراع الإقليمي بين إيران وكل من إسرائيل والولايات المتحدة. 

بعض السيناريوهات المحتملة بخصوص العلاقات بين تركيا وحماس تتعلق بإمكانية انتقال المكتب السياسي للحركة من الدوحة إلى تركيا. وهذا الخيار لو كان مطروحاً بالفعل على الطاولة، فإنه من المهم النظر إليه من منظور أوسع من العلاقات بين تركيا وحماس. عندما استضافت قطر المكتب السياسي لحماس في عام 2012، جاء ذلك بناءًاً على طلب من الولايات المتحدة وحظي بتأييد إسرائيل وقتها من أجل تسهيل قنوات التواصل مع الحركة. ومن الواضح أن هذا الترتيب لم يعد له أية أهمية بعد حرب السابع من أكتوبر. وفي حال كانت تركيا ترغب بالفعل في استضافة المكتب السياسي لحماس، فإن مثل هذه الخطوة ستندرج في إطار تطلعات تركيا إلى توفير الظروف المناسبة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب. لقد تحدث وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بعد اجتماعه بهنية في الدوحة في وقت سابق عن أن الحركة مستعدة للتخلي عن سلاحها والتحول إلى حزب سياسي بمُجرد إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وهذا يُشير إلى أن الاحتضان التركي الجديد لحماس مُصمم من أجل الوصول إلى هذه النتيجة في المستقبل. مع ذلك، فإن الحديث عن حل عادل وشامل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي يتجاهل حقيقة أن إسرائيل لم ولن تكون مُستعدة في المستقبل المنظور للقبول بإنهاء الصراع مع الفلسطينيين على قاعدة حل الدولتين.

إن استقبال أردوغان لهنية بعد أن وصفه بزعيم القضية الفلسطينية وشبه حركة حماس بالقوات التركية التي خاضت حرب الاستقلال ينسجم مع العلاقة الوثيقة التي أقامتها تركيا في ظل حكم أردوغان بالحركة، رغم أنه يتناقض مع مفارقة مثيرة للاهتمام. قبل أن تشن حماس هجوماً على مستوطنات غلاف غزة في السابع من أكتوبر الماضي، كانت أنقرة قد تمكّنت للتو من إعادة إصلاح علاقاتها مع إسرائيل. لكنّ الحرب، التي اندلعت منذ تلك الفترة، أدّت إلى حدوث انتكاسة كبيرة جديدة في العلاقات التركية الإسرائيلية ودفعت حكومة أردوغان إلى التخلي عن خططها للمضي قدماً في تعزيز الانفتاح الجديد على إسرائيل. حتى في الوقت الذي أربكت فيه الحرب جهود تركيا لتطوير علاقاتها الجديدة مع إسرائيل، فإنها في المقابل خلقت لها فرصة لتعزيز حضورها في القضية الفلسطينية من بوابة إظهار مزيد من الاحتضان لحركة حماس. بعد أيام من اندلاع الحرب، أظهر أردوغان دعماً واضحاً لحماس بوصفها حركة تحرر وطني. مع ذلك، فإن أهمية إشادة أردوغان وقتها بالحركة تجاوزت التأكيد على نظرة تركيا لها إلى جعلها جزءًاً رئيسياً من سياسة تركيا تُجاه الحرب. بينما سعت أنقرة – ولا تزال – لتجنب انهيار كامل في العلاقات الجديدة مع إسرائيل، رغم الموقف السياسي الحاد الذي تبنّاه أردوغان ضد تل أبيب، فإن الإشادة بحماس كانت مُصممة في جانب لإظهار الدعم التركي للقضية الفلسطينية حتى في الوقت الذي يعمل فيه أردوغان على تجنب أزمة كبيرة جديدة مع إسرائيل على غرار الأزمات التي عصفت بالعلاقات خلال العقد الماضي. وفي جانب آخر، لتعزيز فرص تركيا في لعب دور الوسيط بين حماس وإسرائيل. 

إلى جانب ذلك، كانت هذه الإشادة إلى جانب النشاط الدبلوماسي التركي المكثّف بعد الحرب وإرسال المساعدات الإغاثية إلى غزة مُصممان أيضاً لاحتواء النقمة الداخلية بين الأوساط المحافظة على وجه الخصوص على استمرار النشاط التجاري بين تركيا وإسرائيل بعد الحرب ولإضعاف أحزاب المعارضة التركية على توظيف هذه النقمة من أجل تحقيق مكاسب سياسية قبل الانتخابات المحلية التي جرت نهاية الشهر الماضي.  رغم ذلك، فإن إشادة أردوغان بحماس ومحاولته الجمع بين إظهار الدعم للحركة وبين تجنب انهيار آخر في العلاقات مع إسرائيل كانت لها أثمان متوقعة وأخرى غير متوقعة. ويُمكن ملاحظة هذه الأثمان بوضوح من خلال توتر العلاقات التركية الإسرائيلية ورفض تل أبيب أن تكون أنقرة طرفاً فعالاً في التواصل بينها وبين حركة حماس ومنعها من المشاركة في عمليات الإنزال الجوي للمساعدات الإغاثية على قطاع غزة على غرار دول أخرى، فضلاً عن النتائج العكسية التي حصدها أردوغان في الداخل بالخسارة الكبيرة لحزبه في الانتخابات المحلية، حيث أن الموقف التركي من الحرب كان من بين الأسباب التي أدّت لخسارة شريحة من الناخبين المحافظين. ويُمكن النظر إلى الانفتاح التركي الإضافي على حماس في الوقت الراهن والقيود التي فرضتها أنقرة مؤخراً على النشاط التجاري مع إسرائيل على أنها تندرج في إطار جهود أردوغان لمعالجة سبب من أسباب خسارة حزبه في الانتخابات. 

لقد حرص أردوغان منذ بداية الحرب على تغليب نظرة تركيا لحماس على العوامل الأخرى الأكثر أهمية التي تُشكل الموقف التركي لتحقيق أهداف السياسة التركية في الصراع ويُمكن تلخيصها بأربعة أهداف. الموازنة بين إظهار الدعم القوي للفلسطينيين وبين تجنب انهيار كامل آخر في العلاقات مع إسرائيل، وتعزيز فرص تركيا للتحول إلى وسيط رئيسي في المفاوضات بين إسرائيل وحركة حماس لإنهاء الحرب وتعظيم دورها المستقبلي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب، فضلاً عن الحد من ارتدادات حسابات الموازنة على مكانة أردوغان في الداخل لا سيما بين المحافظين الذين يُريدون منه أن يتبنى موقفاً أكثر حدّة ضد إسرائيل. وفي المحصلة، فإن الموقف التركي من حماس يخدم الاتجاهات الأساسية للسياسة الثابتة للسياسة التركية في الصراع. إن قدرة حركة حماس الغير متوقعة على الصمود في الحرب كل هذه الفترة كانت عاملاً حاسماً في جعل تركيا تنظر إلى تعزيز علاقتها بالحركة على أنها فرصة بدلاً من كونها تجلب الكثير من المشاكل لها.

إقرأ أيضاً: