منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر بين إسرائيل وحركة حماس، كانت السياسة التي سيُدير بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان موقف بلاده من الحرب محط اهتمام واسع. والسبب ببساطة أن أردوغان كان قد التقى قبل أسابيع قليلة من الحرب برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للمرة الأولى على هامش الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك واتفق معه على المُضي قدماً في تطوير العلاقات الجديدة بين بلديهما منذ إعادة إصلاحها والتحضير لزيارات ثنائية متبادلة. وعلى الرغم من أن الرد التركي الفوري على الحرب تمثل بإلغاء زيارة كان يتم التخطيط لها لأردوغان إلى إسرائيل وتعليق خطط التعاون بين البلدين في مجال الطاقة، إلآّ أن أنقرة تجنّبت القيام بردة فعل دبلوماسية قوية على غرار خفض العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب على غرار العقد الماضي أو حتى وقف النشاط التجاري معها. لقد بدا واضحاً منذ الأيام الأولى للحرب أن أردوغان يولي أهمية قصوى لتجنب انهيار جديد في العلاقات مع إسرائيل من خلال الموازنة بين إظهار الدعم السياسي القوي للفلسطينيين وحركة حماس على وجه الخصوص وبين الحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات مع تل أبيب.
حتى في الوقت الذي قرر فيه أردوغان بعد أكثر من ستة أشهر على الحرب تصعيد الموقف ضد إسرائيل من خلال فرض قيود جزئية على صادرات بعض السلع التركية إلى إسرائيل، فإن أولوية تجنب انهيار كبير في العلاقات معها لا تزال تُشكل ركيزة أساسية في استراتيجية تركيا في الحرب. ومع أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أرجع الإجراءات الاقتصادية العقابية ضد إسرائيل إلى رفضها مشاركة تركيا في عمليات الإنزال الجوية للمساعدات الإنسانية على قطاع غزة، إلآّ أن حقيقة أن هذه الإجراءات جاءت في خضم تصاعد الضغط الداخلي على أردوغان بسبب استمرار النشاط التجاري مع إسرائيل وبعد أسبوع على الهزيمة القاسية للحزب الحاكم في الانتخابات المحلية الأخيرة، والذي يرجع أحد أسبابها إلى معاقبة شريحة من الناخبين للحزب الحاكم بسبب استمرار النشاط التجاري مع إسرائيل، تعكس أن هذه الإجراءات مُصممة بشكل أساسي لاحتواء هذا الضغط ولمعالجة سبب من الأسباب التي أدت لهزيمة حزب أردوغان في الانتخابات. ومن الواضح أن مساعي أردوغان للتعويض على غياب رد فعل دبلوماسي واقتصادي قوي ضد إسرائيل بتبني موقف سياسي حاد تجاه تل أبيب والدعم الصريح لحركة حماس والإعلان أكثر من مرة عن اعتقال شبكات تجسس إسرائيلية على الأراضي التركية بعد الحرب، لم تنجح في الحد من آثار السياسية التركية في الحرب على وضع أردوغان الداخلي.
يأمل أردوغان الآن أن تُساعده الخطوات الاقتصادية الجديدة ضد إسرائيل في تقويض قدرة أحزاب المعارضة على مواصلة استثمار قضية النشاط التجاري مع إسرائيل لزيادة الضغط الشعبي عليه وإعادة استقطاب جزء من الناخبين، الذين قرروا التصويت لصالح حزب “الرفاه الجديد” المحافظ كرد فعل عقابي ضد الحكومة. إن أردوغان، الذي عادة ما يُصمم بعض المسائل الحساسة في السياسية الخارجية مثل القضية الفلسطينية لتعزيز قاعدة الدعم له بين المحافظين، لن يتردد في إحداث تعديل على الموقف التركي من إسرائيل من خلال اتخاذ مثل هذه الإجراءات العقابية عندما يصل الأمر إلى حد تشكيل تهديد لمكانته في الداخل. مع ذلك، لا يزال أردوغان يُحافظ على هامش من المناورة للحفاظ على الأولوية الرئيسية المتمثلة بمنع انهيار كامل في العلاقات مع إسرائيل. إن حقيقة أن العلاقات الدبلوماسية بين البلدين لم تتأثر بشدة حتى الآن منذ اندلاع الحرب رغم النبرة السياسية القوية المُنددة بإسرائيل، وأن الإجراءات الاقتصادية الجديدة ضدها تبقى جزئية ومؤقتة ومرهونة بوقف إطلاق النار في غزة وإيصال المساعدات الإنسانية إلى الفلسطينيين المنكوبين بشكل طبيعي، تُشير إلى أن أردوغان لا يزال يتمسك بمقاربة الموقف من الحرب من منظور حاجة تركيا إلى الإبقاء على هامش لإعادة ترميم العلاقات مع إسرائيل بعد انتهاء الحرب.
تتمثل أولوية تركيا، على غرار الدول العربية، التي حافظت على علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل منذ اندلاع الحرب، في الحد من آثار الحرب على علاقاتها مع تل أبيب وعلى سياساتها في الشرق الأوسط بدرجة أساسية. وفي حالة أنقرة، فإنها نظرت إلى بعض الفرص المحتملة لتعزيز دورها في القضية الفلسطينية وحجز مكان لها في تقرير مستقبل غزة بعد الحرب من خلال محاولة تقديم نفسها كوسيط محتمل بين إسرائيل وحركة حماس، لكنّّها ظلّت لاعباً هامشياً مقارنة بالفاعلين الإقليميين الآخرين. ومع الأخذ بعين الاعتبار أن العناوين العريضة في الاستراتيجية التركية في الحرب لم تتغيّر، فإن البيئة الدولية المصاحبة للحرب بدت مناسبة لتركيا لتصعيد موقفها ضد إسرائيل. إن الأسباب التي دفعت أنقرة إلى تجنب تصعيد هذا الموقف في السابق لا تتعلق فقط برغبتها في منع انهيار كامل في العلاقات مع تل أبيب فحسب، بل ترتبط أيضاً بحذرها من انعكاسات مثل هذا التصعيد على العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً أنه في الأشهر السابقة من الحرب، كانت أنقرة تعمل على ضمان موافقة الإدارة الأمريكية على تمرير صفقة بيع مقاتلات إف ستة عشر لها. كانت الحسابات التركية تقوم على أن تصعيداً في الموقف مع إسرائيل سيؤدي إلى تقويض قدرة أنقرة على إقناع الكونغرس الأمريكي في تمرير الصفقة.
اليوم، وفي ظل أن المسار الجديد في العلاقات التركية الأمريكية أصبح مُحصناً من آثار الموقف التركي من الحرب، وفي خضم الضغط الأمريكي والدولي المتصاعد على إسرائيل لإنهاء الحرب ومعالجة الكارثة الإنسانية في قطاع غزة، فإن الإجراءات العقابية التركية ضد إسرائيل تبدو منسجمة مع الموقف الأمريكي والغربي عموماً من الصراع وبالتالي، فإن تأثيراتها على سياقات العلاقات التركية الأمريكية والتركية الغربية أصبحت محدودة، علاوة على أنها لا تُهدد الهامش المتاح أمام أردوغان لإدارة الأزمة مع إسرائيل بدلاً من منع انجرافها إلى نقطة اللاعودة مرّة أخرى.