أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الثامن من مارس آذار أن الانتخابات المحلية، التي ستُجريها البلاد نهاية هذا الشهر، ستكون الأخيرة التي سيخوضها في إشارة إلى أنه لن يسعى للترشح للرئاسة بعد انتهاء ولايته الحالية في عام 2028. وعلى الرغم من أن أردوغان أرجع قراره المفترض إلى القيود التي يفرضها الدستور الحالي على ترشحه مرّة أخرى، إلآّ أن إثارة بكير بوزداغ نائب رئيس البرلمان ووزير العدل السابق لاحتمال إجراء انتخابات عامة مبكّرة من أجل إفساح المجال أمام أردوغان للترشح مُجدداً ودعوة زعيم حزب “الحركة القومية” دولت بهشلي لأردوغان إلى “عدم ترك الأمة التركية وحدها”، تُعطيان انطباعاً قوياً بأن حديث أردوغان عن الولاية الأخيرة لم يكن سوى تمهيداً لمعركته السياسية المقبلة من أجل إطالة فترة حكمه إلى ما بعد عام 2028. وهذا الانطباع يستمد قوته من حقيقة أن العقبة الدستورية وليست الرغبة بالتقاعد السياسي هي من تمنع أردوغان من الترشح لمرّة أخرى. على سبيل المثال، كان التحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي في عام 2018 مخرجاً لأردوغان للتغلب على عقبة الترشح لأكثر من ولايتين.
مع ذلك، وبعيداً عن الافتراضات بخصوص نوايا أردوغان، فإن إثارته لمسألة الولاية الأخيرة عشية الانتخابات المحلية تعكس الرهانات الكبيرة التي يضعها على الانتخابات لتعزيز زعامته وربما للتخلص من العقبة الدستورية التي تمنع ترشحه مُجدداً. إن الافتراض السائد أن استعادة الحزب الحاكم السيطرة على البلديات الكبرى أو أكثرها أهمية مثل إسطنبول، ستخلق وضعاً سياسياً جديداً يُفقد المعارضة جانباً كبيراً من القوة التي اكتسبتها منذ انتخابات 2019 ويُعيد حزب “العدالة والتنمية” كقوة مُهيمنة على السياسة الداخلية. ومع أن الانتخابات المحلية لن يكون لها أي أثر على تصميم السياسة العامة الذي تشكل بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة في مايو أيار العام الماضي، وفوز التحالف الحاكم بأكثرية مقاعد البرلمان، إلآّ أن نتائجها ستُحدد على المدى البعيد ما إذا كان أردوغان قادراً على تمديد حكمه لفترة إضافية. ومن هذا المنظور، فإن الانتخابات المحلية تتجاوز أهميتها المنافسة الحزبية على الزعامة المحلية إلى التأثير على مستقبل زعامة أردوغان.
إن التأثيرات المحتملة لنتائج الانتخابات المحلية على زعامة أردوغان ستكون على مسارين. يتمثل المسار الأول بانعكاساتها على مستوى التأييد الشعبي لأردوغان. لأن خسارة بلديات كبرى مثل إسطنبول وأنقرة في انتخابات 2019 منحت المعارضة للمرة الأولى خلال حكم الرئيس أردوغان قوة كبيرة، فإن استعادة هذه البلديات أو أكثرها أهمية كإسطنبول، ستعني إلى حد كبير تعافي زعامة أردوغان. على الرغم من أن المعارضة لم تتمكن من الاستفادة من مكاسب الانتخابات المحلية في 2019 لإحداث تغيير سياسي في البلاد لاعتبارات مختلفة، إلآّ أن أردوغان يتطلع إلى استعادة الزعامة على المستوى المحلي في البلديات الكبرى كبوابة لإعادة ترميم زعامته على المستوى الوطني. وكما شكل فوز أردوغان برئاسة بلدية إسطنبول في عام 1994 بوابة له لبناء زعامة على المستوى الوطني، فإن استعادة إسطنبول على وجه الخصوص ستكون حاسمة في إعادة ترميم زعامته إلى حد كبير مقارنة بالفترة التي كانت عليها قبل انتخابات 2019.
أما المسار الثاني فيتمثل بتداعيات نتائج الانتخابات على أحزاب المعارضة عموماً وحزب “الشعب الجمهوري” على وجه الخصوص. وهنا تبرز أهمية إسطنبول كعامل حاسم في هذه التداعيات. إن فوزاً محتملاً لحزب “الشعب الجمهوري” في زعامة إسطنبول مرّة أخرى سيُعزز من حالة أكرم إمام أوغلو كزعيم معارض قوي استطاع لمرّتين أن يهزم الحزب الحاكم في أكبر مدن تركيا. ومثل هذا الفوز سيفسح المجال أمام أمام أوغلو لتطوير زعامته من مستوى محلي إلى مستوى وطني من خلال الترشح للانتخابات الرئاسية مستقبلاً. ومن الواضح أن رهان أردوغان الأساسي في الانتخابات المحلية يقوم على هزيمة إمام أوغلو في معركة إسطنبول، لأن هذه الهزيمة ستعني نهاية ظاهرة إمام أوغلو التي بدأ يُنظر إليها منذ عام 2019 على أنها أكبر تهديد لحكم الرئيس أردوغان. ومن هذا المنظور، فإن مستقبل حالة أكرم إمام أوغلو، التي تُعتبر إحدى العقبات الأساسية أمام أردوغان لإعادة ترميم زعامته سيُحدد على نحو كبير شكل التصميم الجديد للسياسة الداخلية في تركيا بعد الحادي والثلاثين من مارس آذار.
لا ينبغي تجاهل عقبة أخرى أكثر أهمية أمام أردوغان وتتمثل في الحالة الاقتصادية للبلاد. لقد وضع أردوغان منذ إعادة انتخابه لولاية رئاسية ثالثة خطة للتعافي الاقتصادي لمدة ثلاث سنوات. وسيكون نجاح هذه الخطة ضرورياً لأردوغان إذا ما أراد السعي لتمديد فترة حكمه لفترة إضافية. إن الافتراض السائد أن استعادة التحالف الحاكم السيطرة على البلديات الكبرى أو بعضها ممن تُشكل أكثر أهمية في ديناميكيات السياسة الداخلية مثل إسطنبول، فضلاً عن إتمام خطة التعافي الاقتصادي، سيُساعدان أردوغان في تحقيق هدفه بالتحول نحو دستور مدني كامل. مع ذلك، سيتعين على أردوغان توظيف دهائه السياسي لضمان نسبة التأييد المطلوبة في البرلمان لتمرير التعديل الدستوري داخل المجلس أو طرحه على الاستفتاء الشعبي، فضلاً عن تمرير قرار إجراء انتخابات عامة مبكرة لضمان ترشحه لولاية أخرى. تنص المادة 116 من الدستور الحالي على أن قرار البرلمان إجراء انتخابات مبكرة يتطلب موافقة 360 نائباً، ما يعني أن التحالف الحاكم سيكون بحاجة إلى تاييد 38 عضواً آخر من خارج التحالف لتمرير هذا القرار. لذلك، سيتعين على أردوغان الحفاظ على تماسك التحالف الحاكم من جانب، والدخول في عملية مساومة دقيقة مع بعض أحزاب المعارضة من جانب آخر للحصول على النسبة البرلمانية المطلوبة لتمرير الانتخابات العامة المبكرة.
إذا هُزم حزب “الشعب الجمهوري” في الانتخابات المحلية كما يأمل أردوغان، فإن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التشظي داخل جبهة المعارضة، ما يخلق فرصة لأردوغان للعب على التناقضات داخل جبهة المعارضة لاستقطاب بعض أحزابها إلى جانبه. إن التصميم السياسي الجديد الذي ستُفرزه انتخابات الحادي والثلاثين من مارس آذار ومكانة المعارضة فيه سيكونان حاسمين في تحديد ما إذا كان أردوغان قادراً على العمل باتجاه إطالة أمد رئاسته لفترة أخرى.