يحكم الرئيس رجب طيب أردوغان تركيا منذ أكثر من عقدين، ويُجمع مختلف قادة دول العالم الذين عاصروه بمن فيهم المعجبون والمتذمرون من شخصيته على حد سواء على أنّه زعيم قوي ومُتصلب في الرأي ومُندفع في السياسة الخارجية، بحيث لا يُمكن التنبوء بها في بعض الأحيان. إن كثيراً مما يُقال عن أردوغان يبدو حقيقة إلى حد كبير. لقد حوّلت شخصيته القوية تركيا إلى قوة فاعلة ومؤثرة في السياسات الإقليمية والدولية، لكنّها جلبت في بعض الأحيان الكثير من المشاكل لها مع حلفائها وخصومها خصوصاً في العقد الأخير. مع ذلك، هناك قاعدة أساسية في قواعد إدارة أردوغان للسياسة الخارجية ووظيفتها إحداث تحول جذري في السياسات عندما تقتضي الحاجة وتتمثل في البراغماتية التي ساعدته على إعادة ضبط علاقات تركيا الخارجية بطريقة تجعلها أكثر مرونة في التفاعل الإيجابي مع الأصدقاء والخصوم على حد سواء. ويبرز ذلك بشكل جلي في الانعطافة الكبيرة التي بدأتها أنقرة في سياستها الخارجية منذ ثلاث سنوات عندما استطاعت إعادة إصلاح علاقاتها مع معظم القوى الفاعلة في المنطقة العربية والشروع في مهمة إعادة تشكيل العلاقات المتوترة مع الغرب.
كانت الزيارة الأخيرة لأردوغان إلى اليونان بمثابة فصل جديد من فصول تحولاته الدراماتيكية في السياسة الخارجية، حيث أعلن من أثينا فتح صفحة جديدة في العلاقات بعد سنوات من التوتر كادت تصل في مرحلة معينة إلى مواجهة عسكرية. إن التحول التركي في الخطاب تجاه اليونان من التصعيد، الذي ساد بشدة خلال السنوات الثلاث الماضية إلى التهدئة والحوار، وإن عكس بدرجة أساسية الواقعية الجيوسياسية التي دفعت البلدين في هذه المرحلة إلى ربط خلافاتهما والبحث عن مزايا التعاون في بعض المجالات المُمكنة، يعكس كيف أن أردوغان يعود إلى لعبته المفضلة في ممارسة السياسة الخارجية وهي البراغماتية. كزعيم عمل على مدى أكثر من عقدين على تحويل تركيا إلى دولة ناشطة في السياسات الإقليمية والدولية، فإن العودة إلى البراغماتية تعمل كنقطة توازن بين الاندفاعة الخارجية والدبلوماسية بحيث تجعل السياسة الخارجية التركية أكثر قدرة على التكيّف السريع مع الظروف المتحولة المحيطة بها.
ومع أن هذه البراغماتية تأخذ في بعض الأحيان طابعاً سلبياً لأنها تعكس الطابع المتقلب بشكل حاد لنهج أردوغان في السياسة الخارجية، إلآّ أنها تٌصبح أداة مفيدة عندما تعمل على جعل أردوغان أكثر واقعية في مقاربة السياسات الخارجية. وعلى الرغم من أن هذه البراغماتية ظهرت بشكل فعال في تحولات العلاقة مع روسيا بعد أزمة إسقاط المقاتلات الروسية في سوريا منتصف العقد الماضي، إلآّ أنها أصبحت مُهيمنة على السياسة الخارجية التركية تجاه القوى الفاعلة في المنطقة وتجاه الغرب في السنوات الثلاث الماضية. على مدى العقد الماضي، راهنت تركيا على تحولات الربيع العربي وصعود جماعة الإخوان المسلمين، ما وضعها في مواجهة حادة مع الدول النافذة المعارضة لتيار الإسلام السياسي مثل مصر والسعودية والإمارات. ومع فشل هذا الرهان، برز دور البراغماتية الأردوغانية في إعادة إصلاح العلاقات مع الإمارات والسعودية، ثم إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بشكل كامل مع مصر بالتوازي مع دخول أنقرة في حوار مع النظام السوري برعاية روسية نهاية العام الماضي. إن الفوائد المتصورة من هذه البراغماتية أنها مكّنت تركيا من تعزيز دورها الإقليمي وخلق شراكات جديدة مع خصومها الإقليميين السابقين وتقديم نفسها للمنطقة على أنّها وسيط للقوة والاستقرار الإقليمي.
وعلى صعيد العلاقات مع الغرب، فإن البراغماتية الأردوغانية كانت الضمانة الوحيدة لمنع سقوط هذه العلاقات في الهاوية. مع أن جانباً أساسياً من أسباب التحول التركي نحو إعادة إصلاح العلاقات مع الغرب بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة في مايو أيار الماضي، يرجع إلى التحديات الاقتصادية الهائلة التي تواجهها تركيا في الوقت الراهن ومساعيها لجذب الاستثمارات الأجنبية لإعادة إنعاش الاقتصاد، إلاّ أن البراغماتية تجد هامشاً أكبر لها للحركة من منظور الواقعية الجيوسياسية. وبقدر ما أن أردوغان سعى إلى تحقيق هامش من الاستقلال الاستراتيجي عن الغرب، إلاّ أن جوهر هذا الاستقلال الذي يقوم على تحقيق توازن في العلاقات بين الشرق والغرب، وهذا التوازن لا يُمكن أن يتحقق بدون الحفاظ على علاقة عمل مع الغرب بما يُحقق مصالحها المتعددة مع الغربيين. لا تزال تركيا تنظر بأهمية إلى تحقيق التكامل الاقتصادي والجيوسياسي مع الغرب. فالاتحاد الأوروبي لا يزال أكبر شريك اقتصادي خارجي لتركيا، كما أن تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي على غرار تحديث اتفاقية التبادل الجمركي ورفع تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك إلى دول الاتحاد، يعود بمنافع اقتصادية كبيرة على تركيا. علاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة لا تزال شريكاً استراتيجياً مهماً لتركيا رغم الخلافات الكبيرة معها في بعض القضايا.
لكن الوصول إلى مرحلة متقدمة في العلاقات مع الغرب يتطلب قبل كل شيء إدارة الخلافات مع الغربيين وهذه الوظيفة هي ما تقوم بها البراغماتية الأردوغانية بالضبط. من غير المتصور أن تعود العلاقات التركية الغربية إلى فترتها الذهبية بأي حال، لكنّ حقيقة أن أردوغان سيواصل حكم تركيا لخمس سنوات جديدة، تزيد من حاجة كل من أنقرة والغرب إلى إيجاد علاقة عمل فعالة تُحقق توقعات الطرفين من هذه العلاقة. والأمر نفسه ينطبق على تفاعلات تركيا مع روسيا ومع العالم العربي. لقد ساعدت البراغماتية التي يتسم بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والقادة السعوديين والإماراتيين والمصريين في خلق علاقات منتجة مع تركيا وهي مكملة للبراغماتية الأردوغانية. والسبيل الوحيد لتحقيق حالة مماثلة في العلاقات التركية الغربية هو تفاعل الغرب مع براغماتية أردوغان ببراغماتية مماثلة. تُظهر التفاعلات التركية اليونانية الجديدة، والاهتمام الأوروبي والأمريكي في الوقت الراهن بتحسين العلاقات مع تركيا أن جانباً من البراغماتية بدأ يظهر في السياسات الغربية تجاه أنقرة.
وبالقدر الذي تُساهم فيه عودة أردوغان إلى تبني نهج البراغماتية في إدارة السياسات الخارجية في خلق فرص جديدة أمام أنقرة في تفاعلاتها مع الخارج، فإن الظروف الجيوسياسية العالمية الجديدة التي أفرزتها الحرب الروسية الأوكرانية والتحولات الجيوسياسية في جنوب القوقاز وإعادة التشكيل التي تشهدها الجغرافيا السياسية في منطقة الشرق الأوسط منذ ثلاث سنوات، تعمل جميعها على جعل البراغماتية لدى أردوغان هي المُهيمنة عموماً في عملية تشكيل السياسة الخارجية التركية. إن الحكمة السياسية المتصورة من البراغماتية أنها تعمل على دفع القادة إلى التركيز على مصالح بلادهم حتى لو تطلب الأمر إحداث تحول جذري في السياسات والتخلي عن ما تبدو أنها قناعات مترسخة لديهم. وهذا بالضبط ما تقوم عليه البراغماتية الأردوغانية.