قبل عام من الآن، عقدت تركيا والنظام السوري أول محادثات مباشرة مُعلنة برعاية روسية على مستوى وزراء الدفاع ورؤساء جهاز الاستخبارات في موسكو. وقد مهّد ذلك الاجتماع لإطلاق الآلية الثلاثية قبل أن تنضم إليها إيران لاحقاً لتُصبح رباعية. وعلى الرغم من انعقاد العديد من الاجتماعات ورفعها إلى مستوى وزراء الخارجية، إلا أن هذا المسار لم يُثمر نتائج واضحة بعد باستثناء أنه حقق بعض الأهداف الدعائية لأطرافه.
بينما كان الرئيس رجب طيب أردوغان بحاجة إلى إقناع الناخب التركي بأنه يعمل على معالجة ملف اللاجئين السوريين، الذي شكل ورقة ضغط انتخابية عليه قبل انتخابات مايو/ أيار الماضية، سعى نظام الأسد إلى إظهار أنّه بدأ بكسر عزلته الإقليمية على نطاق أوسع. وبالنسبة لروسيا، التي أثارت حربها على أوكرانيا قبل عامين الكثير من الشكوك حول مستقبل دورها في سوريا، فإن رعايتها للحوار التركي السوري أظهر أنها لا تزال تلعب دور ضابط الإيقاع بين التشابكات الإقليمية على الساحة السورية. وبالمثل، فإن إيران، التي لم تُدع في البداية إلى المشاركة في الآلية الثلاثية، أظهرت أنها لا يُمكن عزلها عن أي مسار جديد في الصراع. لا تعني هذه الأهداف الدعائية أن هذا المسار صُمم من أجلها فحسب، لأن الأطراف الأربعة وجدت أخيراً أرضية مشتركة للتعاون في الصراع وتتمثل بتقويض المشروع الانفصالي لوحدات حماية الشعب الكردية والضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها من سوريا. ولأجل ذلك، تواصل اللجنة الرباعية العمل على وضع خارطة طريق لخلق وضع جديد في العلاقات التركية السورية رغم التعقيدات الكبيرة.
أنقرة تبدو واقعية لجهة التمسك بتحقيق حل سياسي للصراع قبل التفكير بالتخلي عن وجودها في سوريا
ما تزال دمشق تشترط على تركيا القبول بوضع جدول زمني لسحب قواتها من شمال سوريا مقابل مواصلة المفاوضات وليس كنتيجة للصفقة التي تسعى إليها أنقرة وهو شرط ترفضه الأخيرة بشدة وهو ما كان ينبغي عليها أن تفعله ليس لأنها يجب أن تُبقي على وجودها العسكري في سوريا إلى الأبد، بل لأن هذا الانسحاب يجب أن يحصل بعد أن تضمن أنقرة إزالة كاملة للتهديد الأمني المتمثل بالإرهاب وتحقيق العودة الطوعية والآمنة للاجئين السوريين من تركيا إلى بلدهم، والأهم من كل ذلك التوصل إلى تسوية سياسية لإنهاء الصراع السوري. إن هذه الأهداف الثلاثة العريضة التي تُشكل جوهر السياسية التركية في سوريا حتى منذ ما قبل مرحلة الانفتاح على الحوار مع دمشق، مترابطة فيما بينها. مع أن جانباً أساسياً من دوافع التحول في السياسة التركية تجاه نظام الأسد، فرضته حاجة أنقرة إلى إيجاد مسارات جديدة تُساعدها في مواجهة أكثر فاعلية للتحديات الملحة التي تواجهها لاسيما تلك المرتبطة بالتهديد الأمني وملف اللاجئين، إلا أن أنقرة تبدو واقعية لجهة التمسك بتحقيق حل سياسي للصراع قبل التفكير بالتخلي عن وجودها في سوريا.
حتى لو أدى المسار التفاوضي إلى توافق على تعاون بين الدول الأربع في مكافحة الإرهاب وتوفير الظروف المناسبة لإعادة اللاجئين السوريين، إلا أنّه لا يُمكن تصور معالجة جذرية كاملة للتهديد الأمني وضمان عودة جميع اللاجئين من دون تحقيق الحل السياسي. لذلك، فإن إصرار تركيا على الاحتفاظ بوجودها العسكري في سوريا حتى تحقيق أهدافها الثلاثة لا يعكس رفاهية في الخيارات بقدر ما يعكس واقعية شديدة في مقاربتها لمستقبل دورها في سوريا. لأن العالم لم يعد مهتماً بقدر كبير في إنهاء الصراع السوري إما لأنه يفقد الرغبة أو القدرة على التأثير أو كليهما معاً، فإن البقاء العسكري التركي في سوريا هو الوسيلة الوحيدة الأكثر فعالية المتبقية للضغط على دمشق وحلفائها للقبول بتسوية سياسية للصراع. علاوة على ذلك، فإن كون الوجود العسكري التركي في سوريا مرتبط أيضاً بالوجود العسكري لدول أخرى كروسيا وإيران والولايات المتحدة يجعل أي نقاش حالي حول مستقبل الوجود العسكري التركي من دون البحث في مستقبل التدخلات العسكرية الأخرى غير مُجد في الوقت الراهن.
قد لا ينطبق هذا الشريط بشكل واضح على روسيا لأنها تُقيم بالفعل بنية عسكرية قوية في سوريا ومن غير المتصور أن تُضحي بالمكاسب الجيوسياسية الكبيرة التي حققتها في الصراع، لكنّه ينطبق بشكل أوضح على الوجود العسكري الأميركي وعلى الوجود العسكري المباشر وغير المباشر لإيران. مع ذلك، فإن العامل الأكثر تأثيراً على السياسة التركية في سوريا يتمثل في الوجود العسكري الأميركي. لم تُظهر إدارة الرئيس جو بايدن منذ توليه السلطة أي رغبة في التخلي عن هذا الوجود وعن علاقتها بالوحدات الكردية، لكنّ الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في نوفمبر تشرين الثاني المقبل، ستلعب دوراً حاسماً في تحديد مستقبل الدور الأميركي في سوريا. الافتراض السائد الواقعي أن عودة محتملة للرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ستدفع الولايات المتحدة إلى تقليص رهانات البقاء في سوريا. وهناك تجربة حصلت في عهد ترامب عندما أبرم صفقة مع تركيا في عام 2019، قضت بتقليص حجم الانتشار العسكري الأميركي في شمالي سوريا.
حتى الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإنه من المرجح أن تستمر حالة الجمود بالهيمنة على مسار المفاوضات التركية السورية. إن الأرضية المشتركة الواضحة التي تجمع أنقرة ودمشق وموسكو وطهران في سوريا تتمثل في الرغبة الجماعية في ممارسة الضغط على الولايات المتحدة لإنهاء وجودها العسكري. وستعمل توافقات جزئية من قبيل التعاون المشترك في مكافحة الإرهاب على تشكيل ضغط إضافي على واشنطن. مع ذلك، فإن تركيا تُدرك أن التقاطعات الواسعة في علاقاتها مع روسيا، والتي تتجاوز الجغرافيا السورية، لا تنسجم مع أهداف دمشق وطهران اللتين تسعيان إلى إخراج تركيا من سوريا. في ضوء ذلك، فإنه كي يؤدي انسحاب عسكري تركي من سوريا إلى تحقيق الأهداف الثلاثة لأنقرة، فإنه سيتعين عليها مواصلة توظيف وجودها في سوريا من أجل الدفع باتجاه تحقيق حل شامل للصراع السوري يُحافظ على وحدة الأراضي السورية ويُعيد تشكيل حكم في دمشق يُلبي تطلعات جميع السوريين ويُشجع اللاجئين في تركيا والدول الأخرى على العودة إلى بلدهم. ومن دون تحقيق هذا الحل، فإن النقاش حول مستقبل الوجود العسكري التركي لن يُغير من حسابات السياسة التركية في سوريا.