ستكون القاهرة الأربعاء 14 فبراير شباط على موعد مع زيارة مهمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعقد قمة تاريخية مع نظيره المصري عبد الفتاح السيسي. حقيقة أن هذه الزيارة هي الأولى لأردوغان منذ ما يزيد عن عقد وأن أنقرة استبقتها بالإعلان عن اتفاق مع القاهرة لتزويدها بطائرات مسيرة تركية والتعاون المشترك في المجالات الدفاعية، تُشير إلى أن البلدين لا يسعيان فحسب إلى إصلاح العلاقات من أجل تصفير مشاكلهما فحسب، بل يطمحان كذلك إلى تجاوز سريع لآثار الأزمة التي استمرت لأكثر من عقد ووضع خارطة طريق لتطوير العلاقات الجديدة إلى ما هو أبعد من استعادتها بشكل طبيعي. على مستوى دبلوماسية القادة، التي تلعب دوراً بارزاً في تشكيل العلاقات بين دول منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، فإن الزيارة ستُدشن فعلياً هذه الدبلوماسية بين أردوغان والسيسي، والتي ستعمل بدورها كمُحفز قوي لتعزيز العلاقات في المجالات الحيوية مثل الاقتصاد وتجارة الطاقة وللتعاون في القضايا الإقليمية الأكثر أهمية للبلدين وعلى رأسها ليبيا وشرق البحر المتوسط.
قبل أول لقاء بين الزعيمين على هامش افتتاح مونديال قطر في الدوحة قبل أكثر من عامين، لم يكن من السهل تصور زيارات متبادلة بين أردوغان والسيسي. حقيقة أن أردوغان شخصية براغماتية للغاية ويستطيع الانتقال من ضفة إلى أخرى بين ليلة وضحاها، ساعدته إلى حد بعيد في إعادة ترميم علاقاته مع خصومه السابقين من قادة دول المنطقة بمن فيهم السيسي. مع ذلك، فإن العوامل التي ساهمت في طي عقد من الأزمة بين تركيا ومصر لم تقتصر على براغماتية أردوغان وحدها وهي مرتبطة بمجموعة من الديناميكيات. مع أن هذه الأزمة ظلت على وتيرة مستقرة لما يقرب من سبع سنوات، إلآّ أنها كادت أن تتطور في عام 2020 إلى مواجهة عسكرية بين البلدين في ليبيا، حيث أجج الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق الوطني الليبية وقتها ضد الجنرال خليفة حفتر المدعوم من مصر، من التنافس التركي المصري في ليبيا. وقد شكّلت مخاطر الصدام حافز قوياً للطرفين لإدارة منافستهما في ليبيا لمنع خروجها عن السيطرة.
علاوة على ذلك، فإن وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض في نفس العام أعاد تشكيل السياسات الإقليمية ودفع جميع القوى المتنافسة إلى الشروع في عملية خفض تصعيد إقليمي واسعة النطاق كوسيلة تحوط من آثار التحول الأمريكي على الشرق الأوسط. وكان من أبرز نتائج خفض التصعيد الإقليمي إنهاء الأزمة الخليجية، التي مهّدت الأرضية أمام تركيا لإعادة إصلاح علاقاتها مع الإمارات ثم السعودية لاحقاً، فيما عملت هذه التحولات على خلق بيئة مناسبة لشروع القاهرة وأنقرة في محادثات استكشافية لإعادة تطبيع العلاقات. يُضاف إلى ذلك أن العزلة الإقليمية التي واجهتها تركيا في الصراع الجيوسياسي شرق البحر المتوسط في ذروة المنافسة الإقليمية، عملت كمحفز قوي لأنقرة للبحث عن سبل لإنهاء الأزمة مع مصر. في المقابل، فإن حقيقة أن تركيا استطاعت خلال العقد الماضي تعزيز دورها كقوة فاعلة في الجغرافيا السياسية الإقليمية دفعت خصومها السابقين بمن فيهم مصر إلى الانفتاح عليها.
وعلى الرغم من أهمية هذه العوامل مُجتمعة في نقل العلاقات التركية المصرية من مرحلة الأزمة إلى المصالحة، فإن التحول الكبير الذي أحدثته تركيا على علاقتها بجماعة الإخوان المسلمين في المنطقة العربية كان له قدر مؤثر في تحولات علاقاتها الإقليمية. إن العوامل التي أدّت إلى انهيار علاقات تركيا الإقليمية خلال العقد الماضي كثيرة وارتبطت في الغالب بأحداث “الربيع العربي” التي أطلقت العنان لسنوات من المنافسة على النفوذ الإقليمي بين أنقرة والقوى العربية الفاعلة التي تحدّت تحولات “الربيع العربي” على رأسها مصر. مع ذلك، كانت علاقات تركيا الجيدة بجماعة الإخوان المسلمين خلال العقد الماضي عائقاً أساسياً إمام إمكانية إعادة إصلاح علاقتها مع القاهرة والرياض وأبو ظبي. مع بدء ظهور الانتكاسات التي تعرّضت لها جماعة الإخوان منذ إطاحة الجيش المصري بالرئيس الإسلامي محمد مرسي في عام 2013، ثم تراجع الفروع الأخرى للجماعة في الدول العربية الأخرى، بدأت أنقرة تولي أهمية لمزايا الابتعاد عن جماعة الإخوان مقابل إصلاح علاقاتها مع خصومها الإقليميين.
ولأن العلاقة مع جماعة الإخوان المسلمين أضافت بُعداً آخر على الأزمات في علاقات تركيا مع القوى الفاعلة في المنطقة العربية خلال العقد الماضي، فإن الطريق إلى إعادة إصلاح هذه العلاقات بدأ منذ أن عملت أنقرة على عزل نفسها عن الجماعة وتقييد نشاطها السياسي والإعلامي على أراضيها. وقد ساعدت الإجراءات التي اتخذتها تركيا بهذا الخصوص في خلق بيئة منافسة لإطلاق محادثات استكشافية مع مصر لإعادة تطبيع العلاقات قبل عامين ونصف تقريبا.ً في غضون ذلك، أعطى نجاح أنقرة في إعادة إصلاح علاقاتها مع الإمارات ثم السعودية بعد ذلك، زخماً قوياً لمساعي التطبيع التركي المصري، فضلاً عن انخراط القاهرة وأنقرة في رعاية عملية لإنهاء الصراع في ليبيا في نفس العام. وبالطبع، لا يُمكن تجاهل دبلوماسية زلزل السادس من فبراير شباط الذي ضرب تركيا العام الماضي، والتي خلقت آفاقاً جديداً لمساعي التطبيع التركي المصري بعد زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى تركيا بعد أيام من الزلزال، وما أعقبتها من زيارة أجراها وزير الخارجية التركي السابق مولود جاوش أوغلو إلى القاهرة بعد ذلك. ومع نجاح أردوغان في ضمان ولاية رئاسية ثالثة له في مايو أيار الماضي، أضحى الطريق إلى استعادة العلاقات الدبلوماسية بالكامل بين أنقرة والقاهرة مُعبداً.
إن إزالة عقبة ملف جماعة الإخوان المسلمين من أجندة العلاقات التركية المصرية وإصلاح العلاقات بين القوى الفاعلة في المنطقة، لا تعني أن القضايا الخلافية بين تركيا ومصر انتهت جميعها. لا يزال الصراع في ليبيا يُشكل إحدى العقبات الأساسية على الرغم من أن البلدين بدا في السنوات الأخيرة أكثر ميلاً للتعاون ومحاولة مواءمة مصالحهما في ليبيا. كما أن الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط خلال العقد الماضي، والذي عقّد من مساعي إعادة إصلاح العلاقات التركية المصرية لا يزال قائماً وإن بوتيرة متراجعة. تتطلع أنقرة الآن من تفاعلاتها الجديدة مع القاهرة إلى إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين تمهيداً لتعزيز التعاون في تجارة الطاقة الثنائية. ومن المنتظر أن تؤدي زيارة أردوغان للقاهرة إلى تعاون أوثق بين البلدين لإنهاء الصراع في ليبيا ومواءمة مصالحهما في هذا البلد. ولأن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، تأخذ في الوقت الراهن الحيز الأكبر من التفاعلات الإقليمية، فإن التعاون التركي المصري يُمكن أن يؤدي إلى تعزيز فرص إنهاء الحرب.
أخيراً، حقيقة أن كل من تركيا ومصر يواجهان في الوقت الراهن تحديات اقتصادية كبيرة متشابهة، تجعل من تطوير علاقاتهما التجارية والاقتصادية أولوية لكليهما. لم تؤثر أزمة العقد بشكل حاد على العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، لكنّ المصالحة السياسية ستخلق بيئة مناسبة للنشاط التجاري والاستثماري بين البلدين. ويبرز مجال الطاقة كأحد أهم الجوانب التي يُمكن أن تنتعش في ظل الوضع الجديد. مع ذلك، فإن هذا المجال سيبقى يواجه عقبات جيوسياسية بالنظر إلى طبيعة العلاقات التي تنسجها كل من القاهرة وأنقرة مع الفاعلين الآخرين في شرق البحر المتوسط مثل إسرائيل واليونان وقبرص الجنوبية.