السعودية تراقب الحرب عن بعد، لكن دورها يبقى جوهرياً

بدلا من الافتراض الذي كان سائدا قبل الحرب بأن سلاما سعوديا إسرائيليا سيؤدي إلى سلام فلسطيني إسرائيلي، فإنه لم يعد من المتصور بعد الحرب أن السلام السعودي الإسرائيلي سيأتي قبل سلام فلسطيني إسرائيلي أو على الأقل لن يحصل قبل إطلاق عملية سلام جادة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

قبل الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر، كانت السعودية تقترب من إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل بوساطة أمريكية، وهي خطوة كان يُنظر إليها على نطاق واسع على أنّها ستُحدث أكبر هزة في الجغرافيا السياسية الإقليمية على الإطلاق منذ عقود طويلة. ورد أن الرياض قررت تجميد مساعي إبرام الصفقة رداً على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة ومن المرجح أن مصير الصفقة أصبح مرهوناً الآن بمسار الحرب ونتائجها. لكنّ الحقيقة المؤكدة أنّه كلما استمرت هذه الحرب لفترة أطول، وكلما تزايدت مخاطر انتشارها إلى الشرق الأوسط الواسع، فإن فرص إبرام اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل في المستقبل المنظور أصبحت محدودة للغاية إن لم تكن مستحيلة. مع ذلك، فإن النتائج التي ستُفضي إليها هذه الحرب لن تُحدد مستقبل هذه الصفقة فحسب، بل قد تؤدي إلى إعادة تشكيل المفاوضات حولها. بدلاً من الافتراض السعودي الذي كان سائداً قبل السابع من أكتوبر بأن سلاماً سعودياً إسرائيلياً سيضغط على تل أبيب للدخول مُجدداً في مفاوضات سلام شاملة مع الفلسطينيين لإيجاد حل نهائي وشامل للصراع بما يُحقق حل الدولتين، فإنه لم يعد من المتصور بعد الحرب أن السلام السعودي الإسرائيلي سيأتي قبل سلام فلسطيني إسرائيلي. 

مثل هذه النتيجة لن تكون مستساغة للقادة الإسرائيليين الذين اعتقدوا منذ إبرام اتفاقات سلام مع الإمارات والبحرين ثم المغرب والسودان لاحقاً وصولاً إلى انفتاح السعودية على التطبيع مع إسرائيل، أنّ بمقدورهم تحقيق سلام مع أكبر عدد ممكن من الدول العربية دون الحاجة إلى تقديم شيء جوهري للفلسطينيين غير المبادرات الاقتصادية. مع أن الحرب أربكت خطط المملكة لإبرام اتفاق سلام مع إسرائيل مقابل الحصول على مزايا كبيرة أخرى على غرار إبرام معاهدة للدفاع المشترك مع الولايات المتحدة والحصول على برنامج نووي للطاقة المدنية، وتجلب لها مخاطر كبيرة في حال انتشر الصراع في أرجاء الشرق الأوسط، إلاّ أن الرياض سيكون بمقدورها بعد الآن تقوية موقفها التفاوضي مع إسرائيل والولايات المتحدة من خلال رهن السلام مع تل أبيب بشكل أوضح بمعالجة شاملة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. لقد أظهرت المملكة العربية السعودية تفاعلاً قوياً مع الحرب من خلال التنديد الصريح بالهجمات الإسرائيلية الدموية على قطاع غزة وتحميل التهرب الإسرائيلي من السلام مع الفلسطينيين مسؤولية انفجار الصراع. كما أنه، وعلى الرغم من علاقتها غير الجيدة مع حركة حماس، إلآّ أنها لم تُندد صراحة بالحركة.

يعكس النهج السعودي الحالي في الموقف من الحرب في جانب السياسة التقليدية السعودية الداعمة للقضية الفلسطينية على الرغم من أن الرياض بدأت في السنوات الأخيرة أكثر ميلاً للتطبيع مع إسرائيل. وفي جانب آخر، يعكس رغبة الرياض في الحد من تداعيات الحرب على أمن واستقرار منطقة الخليج خصوصا إذا ما تفاقمت إلى مواجهة عسكرية بالوكالة بين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة وبين إيران من جهة ثانية أو تطورت إلى مواجهة مباشرة بين الطرفين. على الرغم من أن الحرب لم تكن متوقعة لجميع دول المنطقة باستثناء إيران، التي يعتقد مجتمع الاستخبارات الغربي أنه كان لها دور في التخطيط لهجوم حماس في السابع من أكتوبر أو على الأقل، شجعت حماس على المضي في خطط الهجوم ووعدتها بمساعدتها عبر وكلائها المنتشرين في المنطقة في حال تعرضت لهجوم إسرائيلي شامل، فإن السعودية استبقت هذه الحرب ورغبتها في إبرام اتفاق سلام مع إسرائيل بإعادة إصلاح علاقاتها مع إيران وإبرام هدنة مع الحوثيين في اليمن. ويبدو أن هذه الخطوة كانت مُصممة من منظور سعودي لتجنب رد فعل إيران قوي على سلام محتمل بين الرياض وتل أبيب.

بالإضافة إلى الموقف السياسي الذي يُدين إسرائيل بشكل واضح، تنخرط الدبلوماسية السعودية منذ اندلاع الصراع في الجهود الإقليمية والدولية لتهدئة حدّة الحرب. وبالنسبة للسعوديين، فإن أقصى ما يُمكن فعله حتى الآن هو تجميد مساعي السلام مع إسرائيل وإظهار الرفض الصريح للحرب الإسرائيلية وتشجيع جهود وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. لكن مراقبة الحرب عن بُعد لن تكون كافية للسعودية للحد من ارتداداتها خصوصاً إذا ما انزلق الصراع إلى مواجهة عسكرية في الشرق الأوسط الواسع. ذكرت وكالة بلومبرغ الأمريكية في وقت سابق أن الجيش السعودي أعلن حالة الاستنفار القصوى بعد مواجهة عسكرية مع الحوثيين على الحدود. كما أطلق الحوثيون منذ اندلاع الحرب صواريخ وطائرات مسيرة باتجاه إسرائيل عبرت على الأرجح الأجواء السعودية. ويتمثل القلق السعودي الأكبر في سيناريو صراع عسكري إقليمي من استهداف وكلاء إيران حركة الملاحة في مياه الخليج أو إغلاق طهران لمضيق هرمز من أجل تعطيل إمداد النفط الخليجي إلى الأسواق العالمية. ومن شأن هذا السيناريو أن يضرب شرياناً حيوياً للاقتصاد السعودي ويُعطل رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لتنويع اقتصاد المملكة. لقد أجرى ولي العهد اتصالاً هاتفياً هو الأول مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي منذ إصلاح العلاقات، كما أجرى وزيرا الخارجية السعودي والإيراني بانتظام سلسلة من المحادثات الهاتفية التي تركزت على سبل إنهاء الحرب، لكنّه من المرجح أنّها تناولت أيضاً الهواجس السعودية من تهديد أمن واستقرار منطقة الخليج على يد إيران أو عبر وكلائها في المنطقة في حال تفاقمت الحرب. 

إن أفضل السيناريوهات للسعودية هو أن تنتهي هذه الحرب بسرعة ويتحقق وقف لإطلاق النار في غزة. لكنّ مع حقيقة أن إسرائيل ليست في وارد إنهاء الحرب قبل تحقيق أهدافها المُعلنة بالقضاء على حركة حماس أو على الأقل إنهاء حكمها لقطاع غزة، يُثير سيناريوهات أخرى أقل تفضيلاً للرياض. لكنّ مثل هذه السيناريوهات تجعل من الدور السعودي حيوياً في تقرير مستقبل غزة بعد الحرب ومستقبل السلام الفلسطيني الإسرائيلي. الافتراض السائد أن دول الخليج الغنية وعلى رأسها السعودية سيكون على عاتقها مسؤولية إعادة إعمار غزة بعد الحرب. ومن المرجح أن يكون السعوديون يُفضلون عودة السلطة الفلسطينية إلى إدارة غزة بعد حماس. وفي حال كانت الترتيبات المستقبلية لوضع غزة بعد الحرب تشمل نشر قوات سلام أجنبية في القطاع، كما أوردت صحيفة هآرتس الإسرائيلية، فإن الرياض قد تكون جزءاً من هذه القوات. أخيراً، رغم أن السعودية تبدو بعيدة عن هذه المواجهة مقارنة بالفاعلين الإقليميين الآخرين مثل مصر وقطر وإيران، إلآّ أنه دورها في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد انتهاء الحرب سيكون حاسماً في تحديد مستقبل أعقد صراعات الشرق الأوسط على الإطلاق. 

إقرأ أيضاً: