أعطى الخطاب الأول للأمين العام لحزب الله حسن نصر الله منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحركة حماس مؤشرين مُهمّين: الأول، أن حزب الله، ورغم الهجمات التي يشنها بشكل شبه يومي على إسرائيل منذ اندلاع الحرب كعلامة على إظهار التضامن القوي مع الفصائل الفلسطينية في غزة، لا يزال يولي أهمية كبيرة لتجنب عواقب الانخراط الواسع في الحرب عليه على أية فوائد أخرى متصورة لهذا الانخراط. والثاني أن إيران، وعلى الرغم من التحركات العسكرية المتواضعة لوكلائها في المنطقة من أجل الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة لوقف الحرب، لا تزال تُظهر انضباطاً أكبر في محاكاة حرب إقليمية بالوكالة. ويرجع ذلك إلى سببين أساسيين، أوّلهما رغبة طهران الواضحة في تجنب مغامرة حرب إقليمية لن تؤدي فقط إلى تشكيل تهديد وجودي للقوة الضاربة لها في الشرق الأوسط وهي حزب الله، بل قد تجرها في نهاية المطاف إلى الانخراط المباشر في الحرب. إن هذين المؤشرين يُشكلان الآن الاستراتيجية الإيرانية في مقاربة الحرب الحالية.
مع أن هذه الاستراتيجية تُظهر نقاط الضعف في الموقف الإيراني بقدر أكبر من نقاط القوة، إلآّ أنه لا ينبغي النظر إليها إلى أنها ستبقى مستقرة بشكلها الحالي. لقد ترك نصر الله الباب مفتوحاً أمام انخراط أكبر للحزب في الحرب ورهن ذلك بمسار الحرب على غزة ورد الفعل الإسرائيلي تجاه هجمات حزب الله والفصائل الفلسطينية على الجبهة الشمالية انطلاقاً من الجنوب اللبناني. إن الهجمات شبه اليومية التي يقوم بها حزب الله والفصائل الفلسطينية، وإن لا تؤدي حتى الآن إلى كسر قواعد الاشتباك مع إسرائيل بشكل واضح، قد تخرج عن نطاق السيطرة بسبب خطأ في الحسابات. الافتراض السائد أن حزب الله لديه الخبرة العسكرية الكافية في مواصلة هذه الهجمات بطريقة لا تؤدي إلى رد فعل إسرائيلي غير متوقع. كما أن الافتراض السائد الآخر هو أن الفصائل الفلسطينية التي تنشط في الجبهة الجنوبية اللبنانية منذ اندلاع الحرب، غير قادرة على الخروج عن النهج المدورس لحزب الله. مع ذلك، فإن هذه الافتراضات تبقى مُجرد افتراضات في حرب لا يُمكن التنبوء بمساراتها.
على غير عادة حزب الله الذي كان يُبدي تحفّظاً شديداً في الإعلان عن خسائره في الصراعات التي انخرط بها في السابق، فإنه يُعلن بشكل شبه يومي عن خسائره في الهجمات التي يقوم بها على إسرائيل منذ أسابيع وهي كبيرة مقارنة بطبيعة الهجمات المحدودة التي لم تُحدث تغييراً يذكر في ديناميكية الحرب ولم ترتقي حتى الآن إلى مستوى خوض جبهة مفتوحة. الإعلان عن هذه الخسائر لا يُشكل حرجاً له على عكس الحالات الأخرى طالما أنها تأتي كنتيجة لعمليات ضد إسرائيل. يهدف الإعلان عن الخسائر على الأرجح إلى تحقيق أحد من هذه الأهداف الأربعة أو بعضها أو جميعها:
– أولاً، زيادة الضغط النفسي على إسرائيل من خلال إظهار جدّيته في الانخراط في الحرب على نطاق واسع إذا ما استدعت الحاجة.
ـ ثانياً، إظهار نفسه على أنه يُقدم تضحيات كبيرة في هذه الحرب من أجل الدفاع عن غزة خصوصاً أن حماس لم تُخفي عتبها على الدور المحدود للحزب وحلفاء إيران الآخرين في هذه المواجهة.
– ثالثاً، تهيئة الداخل اللبناني نفسياً لاحتمال انخراطه في الحرب على نطاق واسع إذا ما استدعت الحاجة.
– رابعاً، محاولة إعادة ترميم صورته في الداخل والإقليم كقوة مقاومة في مواجهة إسرائيل بعدما تضررت بصورة كبيرة بفعل انخراطه في الحرب السورية وهيمنته المتزايدة على السياسة الداخلية اللبنانية.
حقيقة أن نتائج الحرب في غزة قد تُشكل تهديداً وجودياً لحزب الله في المستقبل وقد تقوض قدرة طهران على تعزيز وجودها في سوريا إذا ما نجحت إسرائيل في القضاء على حركة حماس وإخراج غزة من معادلة الصراع، تجعل الخيارات الإيرانية في التعامل مع الحرب صعبة ومُعقدة للغاية وتنطوي على الكثير من المخاطر بقدر أكبر من الفوائد المتصورة. مع اقتراب الحرب من طي شهرها الأول، تبدو إيران راضية عن النمط الذي تُدير به موقفها وتحركات وكلائها حتى الآن لأنها على الأقل أظهرت أن طهران لا تلتزم الصمت عندما يتعرض الجزء الفلسطيني من المحور الإقليمي الذي تقوده للخطر. رغم ذلك، فإن التردد الإيراني في تصعيد صراع الوكالة مع إسرائيل إلى حرب إقليمية بالوكالة، علاوة على أنّه يُساهم عن غير قصد في بروز نقاط الضعف الإيرانية، فإنه قد يؤدي إلى بعض النتائج المعاكسة القوية. مما لا شك فيه بعد خطاب نصر الله أن قناعة بدأت تتشكل جزئياً لدى صناع القرار في تل أبيب وواشنطن بأن حدود الانخراط الإيراني بالوكالة في الحرب لن تصل إلى المستوى الذي يؤدي إلى انتشار رقعة الحرب إلى الشرق الأوسط الواسع. ومثل هذا الاعتقاد قد يُشجع إسرائيل على مواصلة عملياتها العسكرية في قطاع غزة بقلق أقل من مخاطر انفجار الجبهة الشمالية مع حزب الله.
مع ذلك، هناك حقيقة أخرى قد تُساعد في تفسير انضباط إيران حتى الآن في تطوير التحركات العسكرية لحلفائها في المنطقة إلى انخراط أعمق في الحرب، وهي أن طهران لا ترى حتى الآن حاجة لإشعال الجبهة الجنوبية اللبنانية طالما أن العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد الفصائل الفلسطينية في غزة لم تصل بعد إلى المستوى الذي يُشكل تهديداً وجودياً لها. الافتراض الذي طرحه نصر الله في خطابه وهو أن الحرب الإقليمية ستُصبح واقعية في حال اقتربت إسرائيل من تحقيق أهدافها في غزة، وإن بدا في جانبه منه، تحذيراً أكثر قوة لإسرائيل، يُرتب في الواقع التزامات غير مستساغة للحزب وإيران وهي التورط بشكل أعمق في الحرب. حتى لو كانت إيران تولي أهمية في الوقت الراهن لتجنب التكاليف الباهظة لانخراط حزب الله في الحرب على الفوائد المتصورة، فإن التداعيات الهائلة لنتيجة الحرب على حزب الله وعلى الوجود الإيراني في سوريا في المستقبل، تجعل الحذر في مقاربة التكاليف أقل أهمية من الفوائد المتصورة. انطلاقاً من ذلك، لا يزال يتعين على إسرائيل والولايات المتحدة أخذ تهديدات نصر الله بالحرب الإقليمية على محمل الجد.
مع أن الولايات المتحدة بدأت في التحرك للتوصل إلى تفاهمات مع إسرائيل ودول المنطقة من أجل إيجاد ترتيبات لمستقبل غزة بعد حركة حماس، وتعمل على خلق بعض المسارات التي تهدف إلى الحد من التداعيات الإنسانية الكبيرة للحرب الإسرائيلية على القطاع، فإن الاستراتيجية الإيرانية في الحرب لا تزال ترتكز على تجنب الفرضيات السيئة المتمثلة في إنهاء وجود المقاومة الفلسطينية في غزة. بقدر ما أن هذه الحرب ستُقرر مصير مستقبل غزة في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، فإنها من منظور إيراني وإسرائيلي أيضاً ستعمل على إعادة تشكيل الشرق الأوسط. وبهذا المعنى، فإن إيران لا تُقارب الحرب على غزة من منظور التهديد التي تُشكله لحالة حركة حماس فحسب، بل أيضاً من منظور التهديد المستقبلي الذي تُشكله لحالة حزب الله في لبنان وللدور الإيراني في الإقليم.