الفصل الأصعب من مأزق إسرائيل لم يبدأ بعد

صممت إسرائيل هجماتها الجوية المدمرة على غزة لجعل الطبيعة الجغرافية للقطاع مساعدة لها في غزوها البري، لكنّه في قتال الشوارع المنتظر، فإنها ستفقد ميزة التفوق العسكري في قتال غزة الثانية التي بنتها الفصائل تحت الأرض.

تسعى إسرائيل إلى التخفيف من وقع الصدمة الهائلة التي أحدثها هجوم حركة حماس في السابع من أكتوبر من خلال استعراض القوة العسكرية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة بشكل غير مسبوق وإحداث أكبر قدر من الدمار والخسائر في الأرواح لإظهار أن مفهوم الردع الإسرائيلي لم يتصدّع بعد السابع من أكتوبر. مع ذلك، فإن الفصل الأصعب من المأزق الذي يواجه إسرائيل الآن لم يبدأ بعد. رغم مضي ما يزيد عن أسبوعين على الضربات الانتقامية على غزة والحشد العسكري لغزو بري متوقع للقطاع، إلآّ أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم يُقرر بعد أهداف ونطاق وتوقيت الاجتياح البري لغزة. مع أن المسؤولين الإسرائيليين يعزون في الغالب أسباب تأخير الاجتياح البري إلى الحاجة لتدمير أكبر قدر من البنية التحتية العسكرية لحركة حماس ودفع المدنيين في شمال القطاع إلى الفرار نحو الجنوب بذريعة تجنب خسائر كبيرة بين السكان أثناء الاجتياح، فضلاً عن إفساح المجال أمام الوساطات للعمل في قضية الرهائن المحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية، إلآّ أن هناك أسباب أخرى غير مُعلنة تؤخر قرار الاجتياح وهي أكثر أهمية من غيرها في تعقيد الاستراتيجية الإسرائيلية. ويُمكن حصر المأزق الذي يواجه هذه الاستراتيجية بأربع معضلات أساسية: 

المعضلة الأولى تتمثل في الصعوبات الهائلة المنتظرة التي ستواجه الجيش الإسرائيلي في قتال الشوارع في غزة. يُقر المسؤولون الإسرائيليون بأن الحرب ستكون صعبة وقد تمتد لفترة طويلة، لكنّ عدم تحقيق نتائج سريعة وقوية على الأرض والتعرّض لخسائر عسكرية كبيرة في بداية الغزو، سيؤدي إلى مزيد من الإحراج الداخلي للمؤسستين السياسية والعسكرية الإسرائيلية ويُعمق بشكل أكبر من حالة فقدان ثقة الشارع الإسرائيلي بالحكومة والجيش بعد الفشل الاستخباراتي والعسكري الذريع في التعامل مع هجوم حماس في السابع من أكتوبر. يعمل الافتراض الإسرائيلي الحالي على أن تدمير البنية العسكرية لحركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية الأخرى سيقوض قدرتها على الصمود لفترة طويلة في قتال الشوارع على اعتبار أن الفصائل ليس لديها خطوط إمداد لوجستية للتزود بالذخيرة في حرب شوارع طويلة الأمد. مع ذلك، فإن القتال، الذي ترغب حماس بجر إسرائيل له داخل القطاع لا يحتاج وجود مثل هذه الإمدادات للصمود لأن الفصائل لديها بالفعل ما يكفي من الأسلحة للقتال لفترة طويلة ومن المرجح أنها استعدت منذ فترة طويلة لهذه المعركة.

علاوة على ذلك، فإن قتال الشوارع يُشكل ميزة كبيرة للفصائل الفلسطينية المدربة بشكل جيد على هذا النوع من الحرب ولديها المعرفة الكاملة بالطبيعة الجغرافية لغزة على عكس الجيش الإسرائيلي، الذي لم يخوض منذ فترة طويلة حرب برية واسعة، وسيفقد ميزة التكنولوجيا المتطورة والتفوق الجوي الكاسح في قتال الشوارع. إذا كانت إسرائيل قد صممت هجماتها الجوية المدمرة على غزة على مدى الأسابيع الماضية لجعل الطبيعة الجغرافية للقطاع مساعدة لها في غزوها البري، فإنه في قتال الشوارع المنتظر ستواجه تحديات كبيرة تتمثل في غزة الثانية التي بنتها الفصائل الفلسطينية تحت الأرض. لقد ألحقت الضربات الجوية دماراً هائلاً بالفعل في المباني السكنية في القطاع، لكنّها لم تستطيع تدمير مدينة الأنفاق الموجودة تحت الأرض. من المميزات الأخرى التي تخدم الفصائل بشكل أكبر من الجيش الإسرائيلي هي الحافز القوي للقتال لأنها تدافع عن الأرض. لكسر هذه الميزة، حشدت إسرائيل أكثر من ثلاثمئة ألف جندي للمشاركة في الغزو البري المنتظر. لا يوجد تقدير لعدد مقاتلي الفصائل الفلسطينية في غزة، لكن رئيس حركة حماس في القطاع يحيى السنوار سبق أن قال إن حوالي سبعين ألف شاب من غزة مستعدون لقتال الجيش الإسرائيلي في حرب برية. وبهذا المعنى، فإن الجيش الإسرائيلي يسعى لتخصيص أربعة جنود تقريباً مقابل كل مقاتل من غزة. مع ذلك، هناك حقيقة أخرى في حرب الشوارع تجعل لغة الأرقام أقل أهمية وهي الكمائن والألغام القادرة على إلحاق عدد كبير من الخسائر في صفوف الجيش الإسرائيلي مقابل خسائر أقل بكثير في صفوف المقاتلين الفلسطينيين.

أما المعضلة الثانية فتتمثل في مصير الرهائن الإسرائيليين لدى الفصائل ويفوق عددهم على الأرجح مئتي أسير. في حين أن عدداً قليلاً جداً من هؤلاء الرهائن قتلوا في ضربات جوية إسرائيلية وفق ما ذكرته حركة حماس في وقت سابق، فإن الغالبية العظمى من هؤلاء الرهائن موجودين داخل الأنفاق، ما يجعل من الصعب على إسرائيل الوصول إلى هؤلاء الرهائن بسهولة حتى مع الاجتياح البري للقطاع. إن كل يوم سيمضي من الغزو البري لغزة دون الوصول إلى الرهائن أو العدد الكبير منهم سيزيد من الضغط الداخلي على رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. لقد صممت حماس استراتيجية احتجاز أكبر عدد من الرهائن في هجوم السابع من أكتوبر، كورقة ضغط قوية على إسرائيل لتقويض قدرتها في الرد العسكري على غزة. ومع أن هذه الاستراتيجية لم تعمل كما ينبغي حتى الآن، إلآّ أن تأثيرها سيكون أكثر فعالية في سيناريو الغزو البري.

وتتمثل المعضلة الثالثة في حدود الاجتياح البري لغزة وأهدافه النهائية والطريقة التي ستتصرف بها إسرائيل بعد ذلك فيما لو نجحت في تحقيق أهدافها.  بينما توعدت إسرائيل في البداية بتدمير حركة حماس وسعت إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء لإخراج القطاع من معادلة الصراع، فإنها أصبحت تتحدث عن “مناورة” بدلاً من الاجتياح البري الشامل وتسعى إلى إنشاء منطقة عازلة لإزالة خطر الفصائل الفلسطينية على المستوطنات المجاورة. مع ذلك، لا تمتلك إسرائيل تصوراً واضحاً لكيفية تحقيق هذه الأهداف فضلاً عن عدم وجود خطة انسحاب من غزة بعد الاجتياح. إن المأزق الذي يواجه إسرائيل بهذا الخصوص لن يكون محصوراً فقط في القدرة على القضاء على حماس أو في الطرف الذي سيُدير غزة بعد الانسحاب في حال مضى الاجتياح البري وفق ما هو مُخطط له، بل يشمل أيضاً حالة غزة في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. عزا رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت الذي أشرف على قرار الانسحاب من غزة عام 2005 الانسحاب إلى رغبة إسرائيلية حينها بتوفير الظروف المنافسة لدفع خيار حل الدولتين. وفي حوار له مع وكالة بلومبرغ الأمريكية نشر مؤخراً، انتقد أولمرت بشدة استراتيجية نتنياهو في التعامل مع حالة غزة بعد الانسحاب وقال إنه سعى لتعزيز سيطرة حماس على القطاع وأضعف في المقابل السلطة الفلسطينية لإضعاف وجود محاور فلسطيني معتدل في التسوية السياسية للصراع. 

يروي أولمرت بعض التفاصيل المهمة في دوافع الانسحاب، حيث يقول إن السبب الثاني وراء فك الارتباط مع غزة بعد الآثار السيئة للاحتلال، هو الديموغرافيا. لقد أصبح من الواضح أن عدداً متزايداً من الفلسطينيين يعتقدون أن الدولة الواحدة، التي يطالبون بالتصويت فيها، قد تخدمهم بشكل أفضل من حل الدولتين الذي يمنحهم السيطرة على جزء فقط من الأرض. ونظرًا لنموهم السكاني الأسرع، كان الفلسطينيون بحلول هذا الوقت سيسيطرون على الأغلبية في نظام الصوت الواحد لكل شخص في جميع أنحاء الأراضي التي تسيطر عليها إسرائيل. وقال أولمرت إن ذلك يعني إما نهاية الديمقراطية في إسرائيل، حيث تقوم أقلية يهودية بقمع أصوات الأغلبية الفلسطينية، أو نهاية الدولة اليهودية. ووفق أولمرت، فإن الانسحاب من غزة قضى على هذه الفرضيات السيئة لإسرائيل. بالتأكيد لن يسعى نتنياهو من الاجتياح البري لغزة إلى إعادة تنشيط خيار حل الدولتين، لكنّ هذه القضية بدأت تتصدر بالفعل من جديد أجندة السياسات الإقليمية والدولية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. 

أما المُعضلة الرابعة التي تواجه إسرائيل في سيناريو الغزو البري، فتتمثل في مخاطر تحول المواجهة الحالية إلى صراع عسكري بالوكالة مع حلفاء إيران في المنطقة لا سيما حزب الله في لبنان. مع أن إسرائيل تعتمد بشكل أساسي على الولايات المتحدة التي أرسلتها المزيد من المعدات العسكرية إلى المنطقة في الآونة الأخيرة لردع إيران عن الانخراط بالوكالة في هذه الحرب، إلآّ أن ذلك لن يعمل بشكل فعال لردع طهران والسبب ببساطة أن إيران تنظر إلى الحرب الوجودية للفصائل الفلسطينية في غزة على أنها أيضاً حرب وجودية لوكلائها في المنطقة لا سيما حزب الله في لبنان وكذلك لدورها المستقبلي في المنطقة. وفي حال اشتعلت الجبهة الشمالية مع لبنان، فإن إسرائيل ستواجه صعوبة عسكرية كبيرة في القتال على جبهتين في وقت واحد. باختصار، فإن الفصل الأصعب من مأزق إسرائيل بعد السابع من أكتوبر لم يبدأ بعد. 

إقرأ أيضاً: