تواصل إسرائيل منذ نحو أسبوعين شن غارات جوية مدمرة على غزة في الوقت الذي تستعد فيه على ما يبدو للقيام بغزو بري للقطاع. رغم الخسائر البشرية المروعة التي يتسبب بها القصف الإسرائيلي وكان أكثرها قساوة المجزرة التي وقعت مؤخراً في مستشفى المعمداني، إلآّ أن القليل من الحديث عن المأساة الإنسانية الخطيرة في غزة والأسباب الجوهرية العميقة التي أدت إلى هذا الانفجار في الصراع، يتم التطرّق له فى تصريحات القادة والمسؤولين الغربيين. بينما كان متوقعاً أن يسعى الرئيس الأمريكي جو بايدن في زيارته لإسرائيل إلى الموازنة بين إبداء الدعم الكامل لها وبين حثّها على تجنب إلحاق الأذى بالمدنيين في غزة والعمل على منع تفاقم الحرب إلى مواجهة إقليمية، إلآّ أن تبنيه الرواية الإسرائيلية بشأن مسؤولية حركة الجهاد الإسلامي عن استهداف المستشفى، يكشف المأزق الأخلاقي والسياسي الذي يواجه الولايات المتحدة في التعامل مع هذا الصراع. لقد فشلت واشنطن منذ اللحظة الأولى للحرب في رسم حدود واضحة أمام الرد الانتقامي الإسرائيلي على هجوم حماس في السابع من أكتوبر. وبدلاً من إصلاح الوضع، تمضي إدارة بايدن في تعميق مأزقها وتبدو عاجزة في ممارسة الضغط على إسرائيل للحد تدهور الأوضاع.
مع ذلك، من الواضح أن حث بايدن لنتنياهو على الاستفادة من تجارب حروب أمريكا ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر أيلول يُفسد رغبة نتنياهو في تكرار التجربة الأمريكية لتغيير الشرق الأوسط كما وعد. علاوة على أن الوضع اليوم في الشرق الأوسط مختلف جذرياً عما كان عليه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر لجهة التحولات الكبيرة التي طرأت على المنطقة خلال العقدين الماضيين، من تراجع التأثير الأمريكي وتصاعد القوة الإيرانية، فإن الولايات المتحدة ليست راغبة في خوض حروب جديدة في الشرق الأوسط تُشتت جهدها العالمي لاحتواء روسيا في أوروبا والصين في آسيا. كما أن نتائج حروب أمريكا بعد 11 سبتمبر ليست مشجعة على الإطلاق لتكرار التجربة من جديد.
لا شك أن الأصداء الهائلة التي أحدثها هجوم حماس على إسرائيل في السابع من أكتوبر شكّلت نقطة تحول تاريخية في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وستبقى حاضرة في الأذهان لأجيال، وقد لعبت دوراً أساسياً في تشكيل الموقف الأمريكي والغربي عموماً من الحرب بهذه الطريقة التي تعتريها الكثير من العيوب الأخلاقية والسياسية. لكنه سيتعين على الغرب الآن التفكير كثيراً بالعواقب الكبيرة لهذه السياسية على قدرته في منع تفاقم الصراع. سيكون التركيز الغربي على ضرورة التزام إسرائيل بالقانون الدولي من أجل الحد من الخسائر الهائلة في الأرواح الفلسطينية مزعجاً بالتأكيد لإسرائيل وللوبيات الضغط الإسرائيلية في العواصم الغربية، لكنّه الطريقة الوحيدة التي يُمكن أن تساعد الولايات المتحدة والغرب الآن في لعب دور فعال للحد من تفاقم الوضع وتحويل الأزمة الراهنة إلى فرصة لإعادة تعويم خيار السلام العادل والشامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين. قد تُراهن إسرائيل على أن الدول العربية المؤثرة في ديناميكية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا تُمانع في إنهاء حكم حركة حماس لقطاع غزة، وربما يبدو ذلك صحيحاً، لكنّ هذه الدول لا تُفضّل بالتأكيد أن ترى هذه النتائج الكارثية للهجمات الإسرائيلية على غزة. مصر على سبيل المثال، لديها مخاوف جدية من محاولة إسرائيل تهجير الفلسطينيين في غزة من أجل توطينهم في سيناء. كما أن السعودية، التي كانت قبل الحرب تتفاوض مع الإسرائيليين برعاية أمريكية من أجل التوصل إلى سلام مع إسرائيل، تُدرك بشكل متزايد العواقب الكارثية للحرب الإسرائيلية على غزة على الصراع وعلى استقرار منطقة الخليج فيما لو تطورت إلى مواجهة إقليمية.
من الواضح أن المستقبل السياسي لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أصبح قاتماً بشدة بعد الفشل الاستخباراتي والأمني الكبير في اكتشاف خطط حماس للهجوم قبل حدوثه ومن ثم التعامل الفوري معه بعد وقوعه. وقد يجد أن تصعيد المواجهة مع حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في غزة إلى معركة برية وسيلة لتأخير الأثمان السياسية التي سيتعين عليه دفعها بعد انتهاء الحرب. وربما يبحث على الأرجح عن انتصار في هجوم بري لتجنب المحاسبة السياسية في نهاية المطاف. لكنّ الطموحات التي وضعها شيء والواقع شيء آخر مختلف كلياً. لقد أمضى نتنياهو معظم حياته السياسية في محاولة احتواء الفصائل الفلسطينية في غزة وتقويض قدرتها على تشكيل تهديد لإسرائيل. وشن لأجل ذلك العديد من الحروب على القطاع منذ فرض حصار خانق عليه في عام 2007. لكنّ هجوم حماس في السابع من أكتوبر أظهر بشكل واضح أن استراتيجية نتنياهو فشلت بشكل كبير. والأهم من ذلك كله أن إسرائيل لم تُقدم في أي من حروبها السابقة على غزة على القيام باجتياح بري، ما يعني أن العواقب الكبيرة التي تنتظرها لم تكن محل اختبار في السابق. كل ذلك، يجعل في الواقع سيناريو الهجوم البري على غزة ينطوي على مخاطر هائلة على إسرائيل بقدر أكبر من المكاسب التي تطمح إليها.
لم يختبر الجيش الإسرائيلي منذ عقود طويلة تجربة خوض حملة برية واسعة في أي جبهة. كانت آخر عملية برية واسعة قام بها في عام 1982 عندما غزا لبنان للقضاء على وجود منظمة التحرير الفلسطينية. لكنّه أجبر بعد بنحو عقدين من الاجتياح البري على الانسحاب من لبنان. ومع أنه استطاع القضاء على وجود منظمة التحرير في لبنان، إلآّ أنه وجد نفسه في نهاية المطاف مع عدو جديد أكثر خطورة من منظمة التحرير هو حزب الله. كما أنه اضطر بعد خمس سنوات من الانسحاب من لبنان على إنهاء احتلاله لقطاع غزة بعد فشله في وقف إطلاق الصواريخ من القطاع. منذ تلك الفترة، بدأت إسرائيل تًُركز بشكل أساسي على قدراتها الجوية لمواجهة التهديدات التي تُشكلها الفصائل الفلسطينية في غزة وحزب الله في لبنان والوجود العسكري الإيراني في سوريا بعد مطلع العقد الماضي. إلى جانب استراتيجية “جز العشب” الفاشلة مع قطاع غزة، فشلت الحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2006 في القضاء على حزب الله. ومن أبرز عواقب هذا الفشل، أن حزب الله اليوم يمتلك قدرات عسكرية هائلة أكثر خطورة على إسرائيل من تلك التي كان يتمتع بها قبل حرب 2006.
يعتقد نتنياهو اليوم أن العودة إلى استراتيجية الحملات البرية تُساعده في القضاء على حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى في القطاع، لكنّ الهجوم البري قد تطمح إليه حركة حماس أيضاً لأنّها تعتقد انّه سيُشكل فرصة أخرى لإلحاق هزيمة جديدة بإسرائيل. حتى لو كان اعتقاد نتنياهو بمزايا الهجوم البري واقعياً من منظور عسكري، فإن قدرة إسرائيل على التعامل بفعالية في اليوم التالي لسقوط حكم حركة حماس محل شك كبير. لقد بدا وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن ساذجاً إلى حد كبير عندما قال إن أعمال حماس لا تُمثل جميع الفلسطينيين. وربما كان ذلك تلميحاً على الأرجح لرغبة إسرائيل والولايات المتحدة في إعادة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة بعد الانتهاء من حماس. علاوة على أن السلطة الفلسطينية لا تمتلك القدرة لفرض السيطرة على غزة وينظر إليها الكثير من الفلسطينيين في القطاع على أنها تؤدي دوراً وظيفياً في الاستراتيجية الإسرائيلية للقضاء على حالة المقاومة المسلحة والتطبيع مع حالة الاحتلال، فإن سيطرة إسرائيلية على القطاع لا تعني بالضرورة نهاية وجودية لحماس. قبل أي شيء، فإن النضال الفلسطيني المسلح ضد إسرائيل يترسخ في الوجدان الفلسطيني ويتجاوز في الواقع الهياكل التنظيمية للفصائل المسلحة. ستكون حماس قادرة على إعادة ترميم نفسها بأي حال.
يُشكل الدعم الأمريكي لإسرائيل في هذه المواجهة خدمة كبيرة لبنيامين نتنياهو. لكنّ الطريقة الوحيدة التي يُمكن أن يستفيد بها نتنياهو حقاً من الولايات المتحدة هي الاستفادة من تجاربها الفاشلة في حربها على الإرهاب. لقد أمضت الولايات المتحدة عقدين من الزمن في الحرب على الإرهاب وأسقطت نظامي طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق. لكنّ الآثار التي تركتها مريعة. بعد عقدين، عادت طالبان إلى السلطة وتحول العراق إلى خطر أكبر على المصالح الأمريكية في المنطقة مما كان عليه خلال حقبة صدام حسين. كما أن الحرب على داعش في سوريا والعراق خلّفت كوارث سيكون من الصعب على البلدين التعافي منها لعقود كبيرة. قد لا تكون المقارنة بين حالة غزة وبين أفغانستان والعراق متكافئة، لكنّ حالة غزة وتأثيرها على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعلى الشرق الأوسط أكبر بكثير من جغرافيتها المحدودة. علاوة على ذلك، فإن المخاطر التي ستجلبها حرب برية إسرائيلية على غزة على صعيد توسيع رقعة الحرب إلى مواجهة إقليمية مع وكلاء إيران في المنطقة، ستحول الشرق الأوسط إلى منطقة صراع أكثر خطورة على إسرائيل والمصالح الأمريكية في المنطقة.
سيتعين على الولايات المتحدة التفكير الآن بالسبل التي تقطع الطريق على مثل هذه السيناريوهات الكارثية. وسيكون الطريق الأفضل هو تحويل هذه الأزمة إلى فرصة لإعادة تحريك عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين للتوصل إلى حل عادل وشامل. ومثل هذا الحل سيُساعد الولايات المتحدة في مواصلة تخفيف وجودها العسكري في الشرق الأوسط والتركيز على التحديات الأخرى التي تواجهها مثل حرب روسيا في أوكرانيا ومنافستها الجيوسياسية مع الصين. وبالتأكيد، لن تُساعد التغطية الأمريكية على مغامرة إسرائيلية جديدة في قطاع غزة بالوصول إلى هذه النتيجة.