عاد الإرهاب ليطغى من جديد على المشهد في تركيا بعد الهجوم الذي استهدف مقر مديرية الأمن في العاصمة أنقرة نهاية الأسبوع وأسفر إصابة شرطيين ومقتل منفذي الهجوم. وأعلن حزب العمال الكردستاني المُصنف إرهابياً في بيان مسؤوليته عن الهجوم. ووقع الهجوم في منطقة مركزية بالعاصمة وعلى بعد مسافة قصيرة من مقر البرلمان التركي الذي كان يستعد لبدء دورته التشريعية الجديدة.
وقال وزير الداخلية التركي علي ييرلي قايا إن شخصين نفذا الهجوم أحدهما انتحاري وقتلا في تبادل لإطلاق النار مع قوات الأمن، حيث كان المهاجمان يسعيان على ما يبدو إلى الدخول إلى مقر المديرية من أجل إحداث عدد كبير من الخسائر في الأرواح. كان آخر هجوم تعرّضت له تركيا وقع قبل نحو عام، واستهدف شارع الاستقلال السياحي في منطقة تقسيم الشهيرة في إسطنبول وألقت السلطات حينها باللوم على وحدات حماية الشعب الكردية التي تُصنفها أنقرة بأنها الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني. وسبق أن أعلن حزب العمال الكردستاني بعد انتخابات مايو إنهاء وقف عملياته ضد الدولة التركية، ومنذ تلك الفترة لم يشن أي هجمات.
سبق أن تعرّضت تركيا للكثير من الهجمات بعد النصف الثاني من العقد الماضي في أعقاب انهيار عملية السلام بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني. لكنّ هذه الهجمات أصبحت نادرة نسبياً في الأعوام الأخيرة، حيث أدّت الحملات الأمنية المكثفة التي تقوم بها السلطات التركية في الداخل والعمليات العسكرية التي تشنها “لمكافحة الإرهاب في شمالي سوريا والعراق” منذ فترة طويلة إلى تقليص قدرة تنظيمات مثل حزب العمال الكردستاني وداعش على شن مزيد من الهجمات داخل البلاد.
من المرجح أن يؤدي هجوم الأحد إلى دفع الدولة إلى تبني نهج أكثر صرامة في مكافحة الإرهاب. وفي أول تعليق له على الهجوم، قال الرئيس رجب طيب أردوغان إن “العملية الإرهابية تمثل الأنفاس الأخيرة للإرهاب”. وفي خطاب ألقاه أمام البرلمان التركي على هامش افتتاح دورته التشريعية الجديدة أضاف أردوغان: “لم ينجح الأنذال الذين استهدفوا سلامة وأمن مواطنينا في تحقيق مبتغاهم، ولن ينجحوا أبدًا”. لم يُشر أردوغان أو المسؤولون الآخرون على الفور إلى حزب العمال الكردستاني، قبل أن يتبنى المسؤولية، لكن أردوغان قال إن تركيا تريد القضاء على وجود حزب العمال خارج حدودها أيضاً في إشارة لسوريا والعراق.
جاء هجوم الأحد في توقيت حساس بالنسبة لتركيا. فمن جانب، يسعى أردوغان منذ فوزه بولاية رئاسية ثالثة في مايو أيار الماضي إلى التركيز على التعامل مع التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهها البلاد والاستعداد للانتخابات المحلية المقررة في مارس آذار المقبل، فضلاً عن الدفع باتجاه وضع دستور مدني جديد. ومن جانب آخر، ينتظر الغرب من أردوغان الوفاء بتعهداته بالمصادقة على عضوية السويد في حلف الناتو.
ولأن جانباً أساسياً من أزمة عضوية السويد في الناتو يتعلق بمطالبات تركيا من الدول الغربية بتبني نهج صارم في التعامل مع المنظمات التي تُصنفها أنقرة إرهابية مثل حزب العمال والوحدات الكردية، فإن هجوم الأحد قد يدفع أردوغان إلى التشدد في المطالب التي سبق أن قدمها للغرب مقابل المصادقة على عضوية السويد وتتركز على اتخاذ إجراءات مشددة ضد نشاط أنصار حزب العمال الكردستاني وتنظيمات أخرى في السويد وحث الولايات المتحدة على إنهاء دعمها العسكري لوحدات حماية الشعب الكردية في سوريا. ومع تبني حزب العمال المسؤولية عن هجوم الأحد، فإنه من المتوقع أن ترد تركيا بزيادة وتيرة عملياتها العسكرية لمكافحة الإرهاب في شمال سوريا والعراق.
يُعد هجوم الأحد أول هجوم تتعرض له تركيا منذ فوز أردوغان بولاية رئاسية جديدة، ما يُشير إلى أن مكافحة الإرهاب لا تقل أهمية عن التحديات الأخرى التي سيتعين عليه التعامل معها في السنوات الخمس المقبلة. منذ إعادة أردوغان تشكيل الحكومة بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة، رفعت تركيا بالفعل من وتيرة عملياتها العسكرية ضد حزب العمال الكردستاني والوحدات الكردية في شمالي سوريا والعراق، حيث شنت المزيد من الهجمات عبر الطائرات المسيرة واستهدفت بشكل متزايد قادة بارزين في التنظيمين.
سبق أن توعدت أنقرة مراراً بشن عملية عسكرية برية جديدة ضد الوحدات الكردية في سوريا، لكنّها لم تقم بها بسبب المعارضة المزودجة من جانب روسيا والولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، بدا أن أردوغان أحدث تحوّلاً في استراتيجية مكافحة الإرهاب في سوريا من خلال تبني نهج منفتح على الحوار مع النظام السوري والدخول في مفاوضات معه برعاية روسية للتوصل إلى تعاون مشترك ضد الوحدات الكردية. مع أن الوجود العسكري التركي في شمالي سوريا والعراق والهجمات المكثفة بالطائرات المسيرة ساعدا تركيا في تقويض القدرة العسكرية للوحدات الكردية وحزب العمال الكردستاني، إلا أن أنقرة تسعى إلى إبعاد كل من الوحدات الكردية وحزب العمال عن حدودها الجنوبية مع سوريا والعراق.
على الصعيد الداخلي، من المرجح أن يؤدي هجوم الأحد إلى جعل مسألة مكافحة الإرهاب طاغية على النقاش السياسي الداخلي في الفترة المقبلة. في حين تسعى أحزاب المعارضة إلى مواجهة الأزمات الداخلية التي تعصف بها بعد هزيمتها في الانتخابات الأخيرة والتركيز على الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تُعانيها البلاد من أجل تعظيم فرص فوزها في الانتخابات المحلية المقبلة، فإن هجوم أنقرة سيدفع أردوغان وحلفاءه القوميين إلى التركيز على ملف مكافحة الإرهاب والتصويب بقدر أكبر على حزب الشعوب الديمقراطي الكردي الذي تتهمه السلطات بأنه واجهة سياسية لحزب العمال.
وبينما تزداد حاجة حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي إلى التعاون الانتخابي مع حزب الشعوب للحفاظ على سيطرته على البلديات الكبرى مثل إسطنبول وأنقرة، فإنه سيواجه صعوبة في تكرار تجربة التعاون الانتخابي مع الحزب الكردي في انتخابات مارس المقبلة على غرار الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو أيار الماضي بعد هجوم أنقرة.