أعاد الهجوم الإرهابي المسلح الذي نفذه حزب العمال الكردستاني على مديرية الأمن في العاصمة التركية أنقرة في الأيام الماضية وضع ملف الإرهاب على قائمة التحديات الكبرى التي تواجه تركيا في الوقت الراهن.
حقيقة أن الهجمات الإرهابية تراجعت وتيرتها بشكل كبير في السنوات الست الماضية، وأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يولي في الوقت الحالي أهمية كبيرة للتعامل مع التحديات الاقتصادية والتعافي من آثار الزلزال المدمر الذي وقع في فبراير/شباط الماضي، وأن البلاد خرجت للتو من انتخابات رئاسية وبرلمانية منهِكة وتستعد لانتخابات محلية أخرى مهمة بعد بضعة أشهر؛ قلّصت عموما تأثير ملف الإرهاب على ديناميكية السياسة الداخلية. ومع ذلك، ظل عامل الإرهاب يطغى بشكل كبير على تشكيل السياسة الخارجية التركية، خاصة في ما يتعلق بالوضع في سوريا والعراق.
منذ انهيار عملية السلام بين تركيا وحزب العمال الكردستاني منتصف العقد الماضي، قوضت الدولة التركية إلى حد كبير قدرة التنظيم على شن هجمات في الداخل، كما جعلته أقل قدرة على استخدام قواعده وفروعه في شمالي سوريا والعراق لاستهداف الأراضي التركية، لكنّ هجوم أنقرة يُشير إلى أن التهديد لا يزال قائمًا.
أهداف الهجوم
هناك 3 أهداف رئيسية لحزب العمال الكردستاني في هجوم أنقرة:
- أولا: استعراض القدرة على شن هجمات
يسعى التنظيم إلى إظهار أنه لا يزال قادرًا على شن هجمات داخل تركيا واستهداف مواقع حساسة؛ مثل مقر مديرية الأمن في العاصمة ومنطقة تقسيم في إسطنبول (قبل عام)، رغم أنه لم يعد لديه وجود عسكري داخل تركيا، ورغم الضربات الكبيرة التي تعرّض لها في السنوات الأخيرة نتيجة العمليات العسكرية ضده وضد فرعه السوري الوحدات الكردية في شمالي العراق وسوريا.
مع ذلك، لا يمكن النظر إلى هجوم أنقرة على أنه يعكس نجاحًا للتنظيم في إعادة تشكيل صراعه مع تركيا. على عكس الاعتداءات الدموية الأخرى التي شنّها حزب العمال عام 2017، والتي أوقعت خسائر كبيرة في الأرواح، وكان لها وقع كبير على السياستين الداخلية والخارجية؛ فإن هجوم أنقرة الأحد الماضي، وهجوم إسطنبول في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي؛ يعكسان فشل التنظيم في محاولة إحداث الصدمة الأمنية التي يسعى إليها، ويبدو ذلك نتيجة تراجع قدراته اللوجيستية في التخطيط لهذه الهجمات وتزايد القدرتين الاستخباراتية والأمنية التركية في التعامل بفعالية مع هذه الهجمات، سواء من حيث الاحتواء الاستباقي لها أو من حيث الحد من خسائرها.
- ثانيًا: تعقيد استحقاق عضوية السويد بالناتو
لا تبدو مصادفة أن يشن حزب العمال الكردستاني هجومًا في أنقرة قبيل ساعات من بدء الدورة التشريعية الجديدة للبرلمان التركي الذي ينتظره استحقاق المصادقة على عضوية السويد في حلف الناتو.
وفي الوقت الذي استطاعت فيه تركيا استخدام قضية توسيع الناتو ورقة ضغط قوية على الغرب لدفعه إلى تبني نهج متشدد إزاء حزب العمال الكردستاني والوحدات الكردية، فإن هجوم أنقرة يهدف عمليًا إلى دفع تركيا لرفع سقف المطالب مع الغرب بخصوص هذه القضية، ليس للحصول على ما تُريده بل لتعقيد فرص نجاح اتفاقية “فيلنيوس” بين أنقرة والغرب، خاصة أن الحكومة السويدية تواجه صعوبة في الاستجابة الكاملة للمطالب التركية بذريعة عدم قدرتها على تكبيل حرية التظاهر التي يكفلها الدستور. وينسجم هذا التكتيك على ما يبدو مع النهج الذي لجأ إليه حزب العمال في الآونة الأخيرة من خلال مواصلة تنظيم مظاهرات معادية لتركيا في السويد لإفساد مساعي أنقرة وستوكهولم في التوصل إلى تفاهم يعالج الهواجس التركية في ما يتعلق بالإرهاب.
- ثالثًا: إرباك المشهدين الأمني والسياسي داخليا
بالنظر إلى أن هجوم أنقرة هو الأول لحزب العمال منذ إعلانه انتهاء وقف إطلاق النار المزعوم الذي أعلنه قبل الانتخابات في مايو/أيار الماضي، والتي كان يُراهن فيها على خسارة التحالف الحاكم وفوز المعارضة، فإن الهدف الثالث له يتمثل في محاولة إرباك المشهدين الأمني والسياسي الداخليين وإظهار أنه لا يزال طرفا مؤثرًا في ديناميكية السياسة الداخلية.
لكن هجوم أنقرة يعكس في الواقع ضعفا للتنظيم بقدر أكبر مما يعكس قوته. بينما فشل حزب العمال من خلال دعمه الصريح لمرشح المعارضة التركية للرئاسة كمال كليجدار أوغلو في انتخابات مايو/أيار الماضي في إحداث تغيير سياسي في تركيا، فإنه يلجأ اليوم إلى القوة كرد فعل على انتكاسة رهانه على الانتخابات السابقة.
مع ذلك، فإن حزب العمال لم يعد قادرًا بأي حال على استخدام قوته للتأثير بشكل فعال على ديناميكية السياسة الداخلية التركية. لا، بل إن عودته إلى نهج العنف تعمل على دفع أردوغان إلى تشديد نهجه في مكافحة الإرهاب، وتُقلص إلى حد كبير قدرة أحزاب المعارضة على تكرار تجربة التحالف الانتخابي السابق مع حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات مارس/آذار المقبلة.
تداعيات الهجوم المحتملة
وفي ما يتعلق بالتداعيات المحتملة لهجوم أنقرة فيُمكن حصرها في 3 تداعيات أساسية:
- أولاً: تصعيد تركي ضد التنظيم
من المرجح أن ترفع تركيا وتيرة نشاطها العسكري ضد حزب العمال الكردستاني وفرعه السوري في شمالي سوريا والعراق في الفترة المقبلة. كانت الهجمات الفورية التي شنها الجيش التركي على مواقع لحزب العمال في شمال العراق بعد هجوم أنقرة مؤشرًا على هذا الاتجاه.
كما سيزداد اهتمام تركيا بمشروع إنشاء منطقة عازلة على حدودها الجنوبية مع سوريا والعراق، وقد يُشكل ذلك حافزا آخر لأنقرة لمواصلة المفاوضات التي تُجريها منذ فترة مع النظام السوري برعاية روسية من أجل التواصل إلى تعاون مشترك ضد الوحدات الكردية. بينما أدت هذه المفاوضات إلى تراجع فرص شن عملية عسكرية تركية برية جديدة ضد الوحدات الكردية في شمال سوريا، فإن هجوم أنقرة سيدفعها إلى إعادة التلويح مُجددا بهذا الخيار كورقة ضغط جديدة على النظام السوري وروسيا وإيران للتعاون معها في مكافحة الإرهاب، أو لمحاولة إخراج الوحدات الكردية من بعض المناطق التي طرحتها سابقًا مثل منبج وتل رفعت وعين العرب أو كل منهما معا.
- ثانيًا: تأخر المصادقة على عضوية السويد بالناتو
من الواضح أن التداعيات البارزة لهجوم أنقرة ستتركز بشكل أساسي في التأثير على مسار العلاقات التركية الغربية. ومن المرجح أن يدفع الهجوم تركيا إلى تبني نهج متشدد في قائمة المظالم التي تقدمت بها للغرب قبل المضي قدمًا في المصادقة على عضوية السويد في الناتو. ومن غير المتصور بعد هجوم أنقرة أن تكون المصادقة التركية على عضوية السويد مطروحة في المستقبل المنظور إذا لم تتغير الظروف الراهنة المحيطة بالعلاقات التركية الغربية.
- ثالثًا: التأثير على الناخبين في محليات مارس
قد تكون لهجوم أنقرة تداعيات على الوضع السياسي الداخلي، خاصة أن البلاد تقترب من انتخابات محلية حاسمة في مارس/آذار المقبل. فمن جانب، سيسعى أردوغان إلى التركيز بقدر أكبر على خطر الإرهاب لتقويض قدرة حزب الشعوب الديمقراطي ومن خلفه حزب العمال الكردستاني على التأثير في الانتخابات المقبلة. ومن جانب آخر، سيؤدي هذا الهجوم إلى زيادة الضغط على المعارضة التي تُعاني من أزمة عميقة نتيجة هزيمة مايو/أيار، ولا تزال بحاجة إلى دعم حزب الشعوب الديمقراطي لها للاحتفاظ بالبلديات الكبرى التي تُسيطر عليها مثل إسطنبول وأنقرة.