انتخابات تركيا وحساباتها المعقدة

مع أن أردوغان يواجه تحدياً انتخابيا غير مسبوق ويتعامل مع منافسه كمال قليجدار أوغلو الذي استطاع حشد ستة أحزاب معارضة خلفه إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، إلآّ أنه يُظهر ثقة في قدرته على الفوز.

ستكون تركيا بعد انتهاء عُطلة العيد على موعد مع المرحلة الأخيرة من المنافسة الانتخابية عندما تنتقل الخطابات الانتخابية إلى الميادين بشكل أكثر سخونة. ستُشكل الأسابيع الثلاثة المتبقية لانتخابات 14 مايو فرصة أمام الأحزاب والتحالفات السياسية لحشد قواعدها الانتخابية ومحاولة استقطاب الأصوات الأخرى التي لم تحسم خياراتها بعد. مع أن الرئيس رجب طيب أردوغان يواجه تحدياً غير مسبوق في هذه الانتخابات ويتعامل مع منافسه كمال قليجدار أوغلو الذي استطاع حشد ستة أحزاب معارضة خلفه إلى جانب حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، إلآّ أنه يُظهر ثقة في قدرته على الفوز.  لدى أردوغان تاريخ حافل بالانتصارات الانتخابية المتوالية على مدى عقدين من الزمن، لكنّه، حتى مع توحّد معظم أحزاب المعارضة الرئيسية والصعوبات الاقتصادية التي تُعانيها البلاد، والتي تعمّقت بشكل أكبر إثر تداعيات الزلزال المدمر في السادس من فبراير شباط الماضي، لا تزال استطلاعات الرأي العديدة تُعطي صورة غير واضحة للنتائج المحتملة التي ستفرزها الانتخابات. مع أن بعض هذه الاستطلاعات تُرجح فوز المعارضة في الانتخابات، إلاّ أن الاعتماد المفرط عليها ينطوي على مخاطر، حيث أنها تُركز بشكل أساسي على استطلاع آراء الناخبين في المناطق الحضرية التي لا تٌُشكل قاعدة الدعم الأساسي للحزب الحاكم.  

مع أن الانتخابات البرلمانية لا تقل أهمية عن الانتخابات الرئاسية، إلآّ أن المنافسة الرئاسية تأخذ الحيّز الأكبر من الاهتمام. ويبدو ذلك مفهوماً بالنظر إلى أن انتخابات الرئاسة ستُحدد المصير السياسي للرئيس رجب طيب أردوغان الذي يحكم البلاد منذ عقدين، كما أن الرئيس، الذي سيُنتخب في 14 مايو أو بعد أسبوعين من ذلك، في حال ذهبت الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية، سيحكم البلاد وفق النظام الرئاسي الذي يمنحه سلطات واسعة على حساب دور البرلمان. مع ذلك، لا يُقلل هذا الأمر من شأن الانتخابات البرلمانية. فمن جانب، سيجد أي رئيس يُنتخب صعوبة في ممارسة السلطة في حال لم يستطيع تحالفه تأمين الغالبية البرلمانية لتمرير القوانين والتشريعات. كما أن نتائج الانتخابات البرلمانية ستؤثر على الرئاسية في حال ذهبت الأخيرة إلى جولة إعادة. فالتحالف، الذي سيحصل على غالبية برلمانية، سيتمكن مرشّحه الرئاسي من استقطاب الأصوات المترددة ومحاولة إقناعها بأنه قادر على إحداث استقرار سياسي وتجنب صراع بين الرئاسة والبرلمان سيؤدي إلى شلل سياسي وقد يدفع باتجاه إجراء انتخابات مبكرة.

مع ذلك، فإن جانباً أساسياً من دوافع كل من أردوغان ومنافسه الرئاسي كمال قليجدار أوغلو في تشكيل القوائم البرلمانية، ارتكز على حسابات الانتخابات الرئاسية. فمن جهته، أدخل أردوغان مرشحي أحزاب الرفاه المحافظ والدعوة الحرة الكردي واليسار الديمقراطي في قوائم حزب العدالة والتنمية من أجل جذب أصوات الأحزاب الثلاثة لصالحه في الانتخابات الرئاسية. وبالمثل فعل قليجدار أوغلو الذي أدرج مرشحي أربعة أحزاب صغيرة هم (السعادة والمستقبل والديقراطية والتقدم والديمقراطي) على قوائم حزب الشعب الجمهوري للانتخابات البرلمانية لكسب أصواتهم في السباق الرئاسي. ما يُثير الاهتمام أن كلا من أردوغان وقليجدار أوغلو سعيا للضغط على أكبر عدد من الأزرار دفعة واحدة لضمان الفوز في الرئاسة في الجولة الأولى أو على الأقل في جولة إعادة محتملة. أردوغان على سبيل المثال، يواصل الإنفاق بسخاء على حزم التحفيز الاقتصادي ورفع معدلات الأجور ووعد بإعادة إعمار المناطق التي دمّرها زلزال 6 فبراير في غضون عام، وسعى لاستقطاب أكبر عدد من الأحزاب الصغيرة إلى التحالف الحاكم. في المقابل، كان قليجدار أوغلو أكثر اندفاعة في لعبة الضغط على الأزرار. لقد دخل في تعاون انتخابي غير مُعلن مع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من دون أن يُهدد بشكل كبير شراكته مع حزب الجيد القومي المعروف بمناهضته للحزب الكردي. كما أدرج مرشحين من أربعة أحزاب صغيرة بينها أحزاب محافظة على قوائم حزب الشعب الجمهوري للانتخابات البرلمانية مُتحدياً الغضب في صفوف الحزب.

مع أن التناقض داخل تحالف الأمة المعارض يبرز بشكل أكبر مقارنة بتحالف الجمهور الحاكم، الذي تبدو مكوناته أكثر انسجاماً من الناحية الأيديولوجية، إلآّ أن قليجدار أوغلو أظهر حنكة في الجمع بين المتناقضات عندما أدرك أن الطريق الوعر إلى السلطة لا يُمكن سلوكه من دون تبني هوية جديدة لحزب الشعب الجمهوري تُعطي الأولوية للخطاب التصالحي مع المكونات الأخرى على حساب الأيديولوجية التقليدية المنفرة للأكراد والمحافظين. وبغض النظر عما إذا كان هذا التحول تكتيكياً وظرفياً فرضته الحاجة الانتخابية، إلآّ أنه ساعد قليجدار أوغلو في دفع معظم أحزاب المعارضة إلى الوقوف خلفه والاتفاق على هدف رئيسي واحد وهو إنهاء حكم أردوغان. لا يزال من الصعب الجزم بما إذا كان هذا التكتيك مفيداً لقليجدار أوغلو والتحالف السداسي عموماً في ضوء أن ارتداداته السلبية المحتملة لم تتضح بشكل كامل بعد ولا يُمكن معرفتها سوى بعد فرز صناديق الاقتراع. مع ذلك، يُمكن ملاحظة بعض الارتدادات السلبية من الآن. كان الارتفاع اللافت في نسب التأييد المحتملة لزعيم حزب البلد المعارض مُحرم إينجه من 1% إلى ما يقرب من 7% وفق استطلاعات الرأي الأخيرة علامة أولية على تحول السلوك الانتخابي لجزء من الكتلة التصويتية لحزب الجيد القومي التي تُعارض التعاون الانتخابي بين قليجدار أوغلو وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي. كما أن هذه الاستطلاعات تُرجح أن يتمكن إينجه من استقطاب الأصوات الممتعضة من قليجدار أوغلو داخل حزب الشعب الجمهوري نتيجة تحالفه مع حزب الشعوب والأحزاب المحافظة الصغيرة.

لا يُمكن اعتبار التحركات التي طرات على نسب التصويت بين الأحزاب على أنها ثابتة. فمع اقتراب الانتخابات، من المرجح أن تحسم الأصوات المتحركة موقفها بشكل أوضح. لكنّه في حال استمرت معدلات التصويت المحتملة لمحرم إينجه فوق الستة في المئة، فإن ذلك سيُعزز احتمالية ذهاب الانتخابات الرئاسية إلى جولة ثانية. تكمن نقاط ضعف قليجدار أوغلو أولاًُ في أنه، وعلى الرغم من قدرته في حشد أكبر قدر من أحزاب المعارضة، لم يستطيع تشكيل استراتيجية سياسية واضحة لتحالف الأمة تتجاوز الحسابات الانتخابية، وثانياً في عجزه عن زيادة ثقة الأصوات المترددة بقدرته على إحداث استقرار سياسي في البلاد في حال وصلت المعارضة إلى السلطة، وثالثاً الصعوبة التي يواجهها في إخراج المنافسة الرئاسية عن سياق “مع أو ضد أردوغان، ورابعاً، فشله في إقناع مُحرم إينجه بالانسحاب من السباق الرئاسي. من الواضح أن نقاط الضعف الأربعة تعمل جميعها على تقليص قدرة قليجدار أوغلو في حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى كما تقوض قدرته على الفوز في جولة إعادة محتملة. قد لا تكون الهندسة السياسية الحالية بشأن جولة الإعادة مناسبة لكل من أردوغان وقليجدار أوغلو في حال لم يتكمن تحالف أي منهما في الحصول على أكثرية برلمانية والحد من معضلة تسرب الأصوات من تحالفيهما لصالح المرشحين الرئاسيين الآخرين مُحرم إينجه وسنان أوغان. علاوة على المخاطر التي يُشكلها إينجه على قليجدار أوغلو، فإن سنان أوغان قد يستطيع بهويته القومية الحصول على بعض الأصوات من حزب الحركة القومية حليف أردوغان، وكذلك أصوات قومية من كل من حزب الجيد وحزب الشعب الجمهوري. لكنّ التأثير السلبي الأكبر في هذه المعادلة سيكون على قليجدار أوغلو أكثر من أردوغان لأن الأصوات القومية التي ذهبت لمحرم إينجه بعد أزمة الطاولة السداسية، ذهبت كرد فعل على التعاون بين قليجدار أوغلو وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي والأحزاب المحافظة ومن غير المرجح أن تعود جميعها له في جولة إعادة محتملة بينه وبين أردوغان لأن السبب الرئيسي لتغير سلوكها الانتخابي سيبقى قائماً. 

من الواضح أن التعقيدات الانتخابية في جولة الإعادة المحتملة للانتخابات الرئاسية ستكون أكبر مما هي عليه في جولة أولى وتتداخل بين نتائج الانتخابات البرلمانية من جهة وبين السلوك الانتخابي للأصوات القومية التي تسربت من التحالف السداسي المعارض (يُمكن وصفه بالتحالف السباعي بحكم الأمر الواقع بعد الدعم الضمني لحزب الشعوب الديمقراطي لقليجدار أوغلو). انطلاقاً من ذلك، فإن الافتراض السائد بأن قليجدار أوغلو سيتمكن من حسم جولة ثانية محتملة قد لا يكون دقيقا تماماً. لأن الاستقرار السياسي سيكون العامل الأساسي في تحديد الأصوات المترددة، فإنه سيخدم أردوغان أكثر من قليجدار أوغلو لأنّه أولاً أثبت قدرته على مدى عقدين في إحداث هذا الاستقرار وثانياً لأن الخلافات التي عصفت في جبهة المعارضة بعد أزمة تحديد مرشحها الرئاسي والصيغة غير الواضحة التي تُقدمها لتكوين ائتلاف حكومي لن تكون جذابة للأصوات المترددة التي تتخوف من عودة تركيا إلى زمن الحكومات الائتلافية غير المستقرة. مع أن قليجدار أوغلو يستفيد جزئياً من كون المنافسة الرئاسية استفتاءاً على أردوغان شخصياً، إلآّ أنه ليس الخيار الوحيد لدى الناخبيين الذي يُريدون تركيا بدون أردوغان. في غضون ذلك، يواجه قليجدار أوغلو مأزقاً داخل حزبه على وجه الخصوص. فهناك قوميون غاضبون من تعاون قليجدار أوغلو مع حزب  الشعب الديمقراطي الكردي، وهناك أتاتوركيون غاضبون من التحالف مع أحزاب المستقبل والديمقراطية والتقدم والسعادة. 

أخيراً، سيكون تصويت الشباب في هذه الانتخابات مُهماً على مستوى المنافسة الرئاسية على وجه الخصوص. هناك أكثر من ستة ملايين شاب سينتخبون للمرة الأولى. كان الافتراض السائد أن التصويت الشبابي لن يخدم أردوغان لأن هذا الجيل الجديد يُريد أن يرى رئيساً مختلفاً. مع ذلك، فإن قليجدار أوغلو لا يُعد عنصراً جذاباً للشباب لأنّه جزء من السياسة التركية وإن كان في جبهة المعارضة لعقدين. انطلاقاً من ذلك، فإن إينجه وسنان أوغان قد يحظيان بقدر أكبر من الحصة التصويتية للشباب. مثل هذا التوقع سيبقى يخدم أردوغان أكثر من قليجدار أوغلو لأن كلّما تقلّصت قدرة الأخير على الفوز باكبر عدد من الأصوات المعارضة لأردوغان كلما تمكن أردوغان من تعزيز فرص إعادة انتخابه. مع ذلك، فإن الخيارات التي سيتخذها محرم إينجه في السباق الرئاسي لا تزال تلعب دوراً مهماً في تحديد كفة من سيفوز برئاسة تركيا سواء في جولة أولى أو جولة إعادة. لأنّ إينجه لم يُغلق الباب تماماً على إمكانية التفاوض مع قليجدار أوغلو، فإن ذلك يترك هامشاً للأخير لإيجاد تسوية في اللحظات الأخيرة تحد من معضلة تسرب الأصوات من التحالف السداسي المعارض. 

إقرأ أيضاً: