تركيا وروسيا .. شراكة تتحدى منطق الهويات الجيوسياسية المختلفة

من خلال دبلوماسية القادة، واعتراف كل من تركيا وروسيا بمصالحهما في القضايا المتداخلة تمكن أردوغان وبوتين من بناء شراكة تحدت منطق الهويات الجيوسياسية المختلفة.

عندما افتتح الرئيسان رجب طيب اردوغان وفلاديمير بوتين في نيسان/أبريل الماضي أول محطة نووية لتوليد الطاقة الكهربائية في تركيا بنتها شركة روستوم الروسية الحكومية، أشاداً بالعلاقات القوية بين أنقرة وموسكو ووعدا بمواصلة تطويرها إلى مستويات متقدمة. بعد مُضي نحو أربعة أشهر على افتتاح المحطة، التي عكست الازدهار القوي في العلاقات منذ النصف الثاني من العقد الماضي، تبرز دلائل متزايدة على أنها لا تُسير على ما يُرام وتواجه بعض الاختبارات الصعبة. في تموز/يوليو الماضي، رفضت روسيا تمديد اتفاقية تصدير الحبوب عبر البحر الأسود في انتكاسة لجهود أنقرة التي رعت الاتفاقية ومددتها ثلاث مرّات متتالية ومكّنت اردوغان من استعراض دبلوماسيته في صراعات دولية كبرى كالحرب الروسية الأوكرانية. قبل نحو أسبوعين من انهيار الاتفاقية، احتجت موسكو على سماح أنقرة بعودة خمسة من قادة كتيبة آزوف إلى أوكرانيا برفقة رئيسها فولوديمير زيلينسكي واعتبرته خرقاً لاتفاق كان يقضي ببقائهم في تركيا حتى نهاية الحرب الروسية الأوكرانية. وعلى الرغم من أن اردوغان وبوتين أجريا مؤخراً محادثة هاتفية لبحث سبل إعادة إحياء اتفاقية الحبوب واتفقا على اللقاء وجهاً لوجه قريباً، إلا أن مكان وتوقيت اللقاء لا يزال غير مؤكد بعد.

وتُشير هذه التطورات في سياق العلاقات التركية الروسية إلى حالة من الفتور بين البلدين لأسباب مختلفة. فمن جهة، يُثير توجه تركيا لتحسين علاقاتها مع الغرب، والذي برز بشكل أوضح بعد الصفقة التي أبرمها اردوغان مع رئيس الوزراء السويدي على هامش قمة الناتو في فيلنيوس تموز/يوليو لإزالة الفيتو التركي على انضمام السويد إلى الحلف، قلقاً في موسكو من انجراف أنقرة نحو الغرب على حساب علاقاتها معها. كما عمّقت الزيارة الأخيرة زيلينسكي إلى تركيا في نفس الشهر قلق روسيا من التعاون المتزايد بين أنقرة وكييف خصوصاً في المجالات الدفاعية. ومن جهة أخرى، تبدو أنقرة قلقة من تزايد العسكرة في منطقة البحر الأسود بعد انهيار اتفاقية الحبوب رغم أنها لا تدعم في العلن مطالب روسيا لإعادة إحياء الاتفاقية. كما أن الانسداد الذي يواجه مسار المفاوضات بين أنقرة والنظام السوري يُثير بعض الشكوك في أنقرة حول مدى جدية روسيا في ممارسة الضغط اللازم على النظام لدفعه إلى التخلي عن شرطه المتمثل بانسحاب القوات التركية في سوريا مقابل إبرام تفاهم بين الطرفين. مع ذلك، فإن هذا الفتور، الذي يطفو على السطح بين الفينة والأخرى لا يعني بأي حال أن العلاقات التركية الروسية مُهددة. حتى في الوقت الذي بدت هذه العلاقة قوية على مدار السنوات السبع الماضية، كانت الخلافات بين الطرفين في بعض القضايا مثل سوريا وجنوب القوقاز والحرب الروسية على أوكرانيا حاضرة، لكنّها لم تؤثر بشكل جذري على مسار العلاقات. يرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن استمرار هذه العلاقات لا يزال حاجة لكل من أنقرة وموسكو على حد سواء. علاوة على ذلك، فإن ما يُميز ديناميكية العلاقات التركية الروسية هي قدرة البلدين على إدارة الخلافات ومنع خروجها عن السيطرة.

في عام 2016 كانت العلاقات التركية الروسية تسلك منحى خطيراً في أعقاب حادثة إسقاط تركيا المقاتلة الروسية بعد اختراقها أجوائها على الحدود مع سوريا. لم تكد تمضي بضعة أشهر على إعادة إصلاح العلاقات وتجاوز الأزمة، حتى تعرض السفير الروسي أندريه كارلوف لعملية اغتيال في العاصمة أنقرة في كانون الأول/ديسمبر من نفس العام. مؤخراً، كشفت صحيفة «صباح» التركية معلومات تزعم ضلوع تنظيم «غولن» في عملية الاغتيال. قد يتساءل البعض عن السبب الذي يدفع هذه المنظمة إلى محاولة إفساد المصالحة بين أنقرة وموسكو وإشعال صراع بينهما ولأجل من؟ لكنّ المؤكد بالنسبة لكل من أنقرة وموسكو أن واشنطن تُبدي امتعاضاً كبيراً من العلاقات القوية بين الطرفين منذ سنوات وتسعى لإفسادها بأية طريقة. كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا بسبب شرائها منظومة S400 الروسية أحد وسائل الضغط على أنقرة. مع ذلك، لم تُفلح في عكس مسار العلاقات التركية الروسية. تُشير هذه العلاقات التركية الروسية بعد سبع سنوات من تلك المنعطفات الرهيبة إلى أنها كانت أقوى بالفعل من محاولة عكس مسارها.

تبرز اليوم الشراكة مُتعددة الأوجه بين البلدين من التعاون الجيوسياسي الواسع في بعض القضايا الإقليمية مثل سوريا وجنوب القوقاز إلى المشاريع الضخمة التي أشرف الرئيسان اردوغان وبوتين على إنجازها كبناء محطة أكويو النووية، مروراً بالعلاقات الاقتصادية والتجارية المتنامية، كدليل على قوة هذه الشراكة والكيفية التي عملت بها على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في المناطق التي للبلدين تأثير كبير فيها. في علامة إضافية على أهمية هذه الشراكة، اتفق اردوغان وبوتين مؤخراً على اللقاء رغم أن الموعد والمكان لم يتم الاتفاق عليه بعد، لكنّه على الأرجح سيكون في تركيا. بالنظر إلى أن الزيارة المحتملة لبوتين إلى تركيا ستكون الأولى بعد فوز اردوغان بولاية رئاسية ثالثة والأولى إلى دولة عضو في حلف الناتو منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فإنها تكتسب دلالات كبيرة في سياق الشراكة الثنائية وفي سياق الاضطرابات الجيوسياسية العالمية. فمن جهة، ستُعزز الزيارة الحقبة الجديدة التي ظهرت في العلاقات التركية الروسية بعد منتصف العقد الماضي. ومن جهة أخرى، ستُظهر بوضوح ميزان القوى الجديد الذي ينشأ في منطقة أوراسيا التي تتجه لتكون فاعلاً أساسياً في النظام العالمي الجديد الذي يعمل التنافس الجيوسياسي الجديد بين القوى العظمى على إعادة تشكيله.

إن قرار بوتين واردوغان اللقاء شخصياً يعكس قبل كل شيء ارتياحاً واسعاً في موسكو لفوز اردوغان بولاية رئاسية جديدة. لا يُخفى أن روسيا كانت تراقب بقلق بالغ الانتخابات التركية، ليس لأن جانباً أساسياً من مستقبل الشراكة مع تركيا مرتبط بشخص اردوغان فحسب، بل أيضاً لأن المعارضة التركية كانت تعد بتني نهج متشدد في العلاقة مع موسكو على حساب الموازنة الدقيقة التي عمل اردوغان عليها بين موسكو والغرب. الافتراض الواقعي الآن أن هذه الشراكة ستبقى مستقرة وقد تنمو بشكل أكبر في السنوات الخمس المقبلة. إن الاهتمام الروسي بتركيا لا يتعلق فقط بأهميتها في الصراع الجيوسياسي الراهن بين موسكو والغرب، بل يرجع أيضاً إلى الدور المحوري لتركيا في تجارة الطاقة العالمية وتأثيرها الكبير في مناطق الفضاء السوفييتي السابق الذي تُصنّفه موسكو على أنه حديقة خلفية لها كآسيا الوسطى وجنوب القوقاز. تُقارب تركيا وروسيا العلاقة بينهما بعيداً من صراع الهويات الجيوسياسية ومن منظور يتركز على أولويات المصالح الوطنية لهما.

عملية موازنة

من أبرز سمات الشراكة التركية الروسية أنّها تحدت منطق التاريخ المليء بالاضطرابات بين الجانبين وتحدّت أيضاً منطق اختلاف الهويات الجيوسياسية. يُجادل الكثير من الخبراء في توصيف طبيعة هذه الشراكة التي قدمت نموذجاً استثنائياً في إدارة علاقة بين بلدين كانا يقفان حتى وقت قريب على طرفي نقيض في كثير من القضايا الحساسة. يُمكن وصف هذه الشراكة على أنها نتاج لعملية الموازنة التي تقوم بها تركيا بين توجّهاتها الأوراسية المتنامية وبين الحفاظ على هويتها كجزء من حلف شمال الأطلسي. وبالمثل، فهي أيضاً نتاج عملية موازنة تقوم بها روسيا بين الإقرار بدور تركيا الجديد في أوراسيا ومصالحها في سوريا وبين المنافسة معها. بهذا المعنى، فإن التوصيف الأكثر دقة للشراكة التركية الروسية هو التعاون التنافسي. يبدو ذلك طبيعياً بالنظر إلى أن الجغرافيا وحاجة كل من تركيا وروسيا إلى استيعاب أدوارهما ومصالحهما الخارجية تفرضان عليهما تجاهل اختلاف هويتهما الجيوسياسية والتركيز على إدارة مصالحهما من منطلق التعاون التنافسي.
لا تزال تركيا هي تركيا التي هي جزء من حلف الناتو مع اختلاف أن اردوغان صنع هوية جيوسياسية جديدة لها لا تعتبر روسيا مُهدداً لها. وبالمثل، فإن روسيا ستبقى روسيا التي تتوجس من توسع حلف شمال الأطلسي مع فارق أن بوتين يتعامل مع تركيا كشريك موثوق ولديها مصالح مشروعة قبل أن تكون عضواً في الناتو. مع ذلك، فإن جانباً أساسياً من قوة الشراكة التركية الروسية يكمن في طبيعة إدارة اردوغان وبوتين لها. من خلال الديناميكية المتحركة لدبلوماسية القادة، واعتراف كل من تركيا وروسيا ببعضهما البعض كقوتين لديهما مصالح مشروعة في القضايا المتداخلة بينهما، تمكّن البلدان من تقديم هذا النموذج الفريد في العلاقات العابرة للهويات الجيوسياسية المتناقضة. مع أن هذه الشراكة تسببت بتوترات كبيرة في العلاقات التركية الغربية في السنوات الأخيرة، إلا أنها أثبتت أن فوائدها لا تقتصر على المصالح التركية الروسية فحسب، بل تطال الأمن والاستقرار الإقليمي والعالمي. بالطريقة التي ساعدت فيها العلاقات الجيدة بين أنقرة وموسكو في الحد من تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الأمن والاستقرار الإقليمي والأمن الغذائي العالمي، فإنها ساعدت في معالجة بعض الصراعات الإقليمية المزمنة ووضع حجر الأساس لحل صراعات أخرى.
في جنوب القوقاز، لعبت الشراكة التركية الروسية دوراً حيوياً في نقل الصراع التاريخي بين أذربيجان وأرمينيا من مرحلة الحرب الباردة إلى مرحلة السلام. وفي سوريا، خلقت هذه الشراكة آفاقاً جديدة لإنهاء الحرب. بفضل هذه الشراكة، دخلت العلاقات التركية السورية حقبة جديدة قد تؤدي إلى إحلال السلام في هذا البلد. وفي ليبيا كذلك، ساعدت كل من تركيا وروسيا في تمهيد الأرضية للمرحلة الانتقالية الراهنة من خلال رعاية مشتركة لوقف إطلاق النار بين الأطراف المتصارعة قبل أربع سنوات. على صعيد العلاقات الاقتصادية وتجارة الطاقة، كانت فوائد هذه الشراكة واضحة لكلا البلدين. مع أن الغرب يُبدي امتعاضاً من استمرار العلاقات الاقتصادية التركية الروسية بعد الحرب الأوكرانية، إلا أن هذه العلاقات كان لها الفضل في استمرار ضخ الغاز الروسي إلى الاتحاد الأوروبي عبر خطوط الأنابيب التي تمر عبر تركيا. علاوة على ذلك، يُقدم المشروع المشترك بين البلدين لإنشاء مركز لبيع الغاز في تركيا فرصة لإعادة ترميم تجارة الطاقة بين روسيا والأوروبيين بعد انتهاء الحرب الروسية الأوكرانية. وستكون زيارة بوتين المرتقبة إلى تركيا مناسبة لاستكشاف سبل دفع الشراكة إلى مستويات جديدة.

النص الأصلي

إقرأ أيضاً: