دروس من انهيار التجربة الانفصالية في قره باغ

يرى الباحث في العلاقات الدولية محمود علوش أن انهيار التجربة الانفصالية للأرمن في قره باغ أفرز تحولات كبيرة لن تقتصر آثارها على الصراع الأذربيجاني الأرمني وعلى الجغرافيا السياسية في جنوب القوقاز فحسب بل سيتردد صداها في مناطق أخرى من العالم.

أفرز انهيار الإدارة الانفصالية للأرمن في إقليم قره باغ وعودته إلى أذربيجان تحوّلات كبيرة لن تقتصر تداعياتها على ديناميكية الصراع التاريخي الأذربيجاني – الأرمني وعلى الجغرافيا السياسية في جنوب القوقاز فحسب، بل سيتردد صداها بعيداً عن هذه المنطقة. مع إدراك أهمية جنوب القوقاز في تجارة الطاقة العالمية ومشروع طريق الحرير الصيني وفي المنافسة الجيوسياسية الإقليمية بين تركيا وروسيا وإيران، فإن تحولاتّ صراع قره باغ سيكون لها أثر في المنافسات الجيوسياسية الإقليمية والعالمية الراهنة. 

هناك خمس نتائج مهمة يُمكن استخلاصها من هذه التحولات. 

ـ أولاً: المشاريع الانفصالية قابلة للانهيار إذا ما اكتملت الظروف المناهضة لها وبغض النظر عن مدى قوتها والوقت الذي استغرقته لتعزيز نفسها. لقد أمضى الانفصاليون الأرمن بدعم من يريفان ما يقرب من ثلاثة عقود في تعزيز حكمهم لقره باغ حتى بدا أن عودة الإقليم يوماً ما إلى أذربيجان ضرباً من الخيال. حتى فترة ما قبل حرب قره باغ الثانية في عام 2020 كان هذا الاعتقاد واقعياً إلى حد بعيد واستند على ثلاثة اتّجاهات: ميل ميزان القوة العسكرية لصالح أرمينيا، والتحالف الأرمني الروسي الوثيق  الذي ساعد يريفان في الحفاظ على الأمر الواقع في الإقليم منذ وقف إطلاق النار عام 1994، فضلاً عن تفضيل المجتمع الدولي التعاطي مع الصراع من منظور تجميد القضية لعقود طويلة أخرى وربما إلى الأبد. من الواضح أن تحول ميزان القوة لصالح أذربيجان منذ عام 2020 بفضل تحالفها القوي مع تركيا خلق وضعاً جديداً في الصراع وأجبر موسكو إلى جانب عوامل أخرى على تغيير مقاربتها لهذه القضية والتخلي عن مساعدة أرمينيا في تجميد الصراع. كما أجبر الدول الغربية على الانخراط بجدية أكبر من أجل التوصل إلى اتفاق سلام شامل بين باكو ويريفان.

سيكون لانهيار الحكم الانفصالي في قره باغ أصداء مؤكدة على نماذج أخرى متشابهة جزئياً من حيث الظروف المباشرة المحيطة بها وديناميكية السياسات الإقليمية والدولية المؤثرة عليها. في سوريا على سبيل المثال، أنشأت وحدات حماية الشعب الكردية إدارة ذاتية في مناطق سيطرتها شمال شرق البلاد في نوفمبر 2013. وتحظى هذه الإدارة عملياً بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية. حقيقة أن واشنطن تحتفظ بوجود عسكري متواضع لحماية الإدارة الذاتية الكردية وأن القضاء على هذه الإدارة يُشكل هدفاً مشتركاً لروسيا وتركيا وإيران والنظام السوري، تُقلص من قدرة الانفصاليين الأكراد والولايات المتحدة في الحفاظ على الإدارة الذاتية لفترة أطول على غرار تجربة قره باغ. إلى جانب أن التعاون التنافسي التركي الروسي، الذي لعب بشكل أو بآخر دوراً قوياً في انهيار الحكم الانفصالي في قره باغ، يُشكل نموذجاً لتكراره في حالة الوحدات الكردية، فإن الولايات المتحدة قد تجد نفسها مُقيدة في منع انهيار الإدارة الذاتية الكردية في سوريا بالطريقة التي فعتلها روسيا مع أرمن قره باغ. على عكس روسيا، التي استطاعت الاستفادة من تحولات جنوب القوقاز للحفاظ على دورها القوي في الجغرافيا السياسية الجديدة من خلال التحول إلى طرف للحفاظ على السلام، فإن واشنطن، التي اضطرت للانسحاب من أفغانستان بعد عقدين من الاحتلال والتخلي عن النظام الأفغاني الذي بنته، من غير المتصور أن تكون مستعدة للقتال من أجل حماية تجربة الإدارة الذاتية لحلفائها في سوريا.

– ثانياً، عندما تُفرط مشاريع الحكم الذاتي في طموحاتها وتُصبح راديكالية في الانفصال الكلي عن الكيان الأم، فإنها تجلب مخاطر الانهيار لنفسها. لو اكتفى حكم الانفصاليين الأرمن لقره باغ بمشروع الحكم الذاتي و تفاوضوا مع باكو منذ ثلاثة عقود على تعزيزه بدلاً من إعلان الانفصال لكان بوسعهم على الأرجح تجنّب هذه الانتكاسة الكبيرة اليوم. هناك بعض التجارب الأخرى المشابهة في العالم. في العراق، كاد الأكراد يفقدون الحكم الذاتي في إقليم كردستان عندما اعتقدوا أن الانفصال الكامل عن الكيان الأم خياراً ممُكناً في عام 2017. وفي إسبانيا أيضاً، ساعد تحرك إقليم كاتالونيا نحو الاستقلال عن الكيان الأم في عام 2017 حكومة مدريد في تقويض النزعة الاستقلالية إلى حد كبير وتعزيز الحكم الذاتي للإقليم. ينبغي أن يكون انهيار حكم الانفصاليين في قره باغ درساً لنماذج الحكم الذاتي الأخرى في العالم بأن النزعة الانفصالية قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا رهنت قدرتها على تحقيق ذلك بالمصالح المتغيرة للقوى الكبرى وإذا لم تتعامل بواقعية شديدة مع الظروف الواقعية المؤثرة عليها. 

ـ ثالثاً، إن السرعة التي استسلم بها الانفصاليون الأرمن تكشف تراجع قدرة روسيا على التحكم بديناميكيات السياسات الإقليمية في فنائها الخلفي. ويُمكن النظر إلى الأزمة العميقة التي تعصف بالعلاقات الروسية الأرمنية في الوقت الراهن كأحد إفرازات هذا التراجع. قد يكون للتراجع الروسي، الذي يستمد قوته بشكل متزايد من حرب الاستنزاف التي تخوضها موسكو في أوكرانيا تداعيات كبيرة الفضاء السوفيتي السابق الأوسع. إن فشل روسيا في منع أذربيجان على استخدام القوة لإنهاء صراع قره باغ منذ عام 2020 يُرسل رسالة للدول السوفيتية السابقة في آسيا الوسطى، والتي لديها  نزاعات حدودية، بأنّه بمقدوره استخدام القوة لحسم هذه النزاعات دون الحاجة إلى التفكير كثيراً بالعواقب الروسية المحتملة. مع ذلك، تتطلع موسكو إلى استخدم تجربة تدهور علاقاتها مع أرمينيا كوسيلة تحذير للدول الأخرى في المنطقة بأن محاولة التحرر من العباءة الروسية يجعلها عدائية معها. ومن المفارقات المهمة أن العلاقات الروسية الأرمنية بدأت تتدهور بشكل جدي في عام 2018 عندما أطاحت “الثورة الملونة” بالحرس القديم المتحالف مع روسيا في يريفان وأتت بنيكول باشينيان إلى السلطة. يُنظر الآن في يريفان إلى أن امتناع روسيا عن دعم أرمينيا منذ حرب قره باغ الثانية هدف بشكل أساسي إلى معاقبة باشنيان على ميوله الغربية وربما محاولة الإطاحة به من السلطة. قد يكون ضعف روسيا في لعب دور ضابط الإيقاع في جنوب القوقاز بقوة مثيراً للإعجاب لبعض الدول السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى، والتي ترغب في تقليص نفوذ روسيا عليها. لكنّ الطريقة القاسية التي عاقبت بها روسيا باشنيان تُشكل جرس إنذار لتلك الدول بأن محاولة التمرد على نفوذ موسكو ينطوي على كثير من المخاطر.

– رابعاً، يُشير تراجع القوى الكبرى في التأثير على ديناميكية الجغرافيا السياسية المحيطة التي تنشط فيها إلى أن هذا التراجع يخدم طموحات القوى الإقليمية لتعميق حضورها. يُمكن النظر إلى دور تركيا المتنامي في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى كمثال واضح على هذه الحالة. لقد أضحت فكرة إعادة إحياء العالم التركي الأوسع قابلة للتطبيق في ضوء تحولات الجغرافيا السياسية في جنوب القوقاز. يُقدم التحالف الاستراتيجي الوثيق بين تركيا وأذربيجان نموذجين مهمين: الأول قدرة أنقرة في إحداث تحول تاريخي في صراع مُعقد بحجم صراع قره باغ. والثاني، إمكانية تطبيق النموذج التركي الأذربيجاني مع دول آسيا الوسطى التي تنظر بأهمية متزايدة إلى تعميق علاقاتها مع أنقرة في إطار استراتيجية تنويع الشراكة الخارجية والحد من الاعتماد المطلق على روسيا. يُمكن النظر إلى تحويل مجلس الدول الناطقة بالتركية إلى منظمة الدول التركية بعد عام من حرب قره باغ الثانية على أنه نتيجة أساسية للطريقة التي عمل بها التحالف الأذربيجاني التركي على إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في جنوب القوقاز. ومع مشروع ممر زانغزور الذي سيعمل على إيجاد رابط  بري بين تركيا وأذربيجان وصولاً إلى دول آسيا الوسطى، فإن فكرة العالم التركي الموحد ستُطبق بشكل أكبر في التفاعلات بين أنقرة وكل من أذربيجان ودول آسيا الوسطى.

– خامساً، إن إضعاف روسيا الذي يعمل عليه الغرب بعد الحرب الروسية الأوكرانية، لا يخدم بالضرورة المصالح الغربية في بعض المناطق الحيوية مثل جنوب القوقاز وآسيا الوسطى. مع أن الجهد الأمريكي للاستفادة من تدهور العلاقات الروسية الأرمنية من أجل دفع يريفان إلى الابتعاد عن موسكو والتقرب من الغرب لن يكون مُجدياً كثيراً من منظور الواقعية الجيوسياسية التي تجعل من الاستحالة على أرمينيا فك شراكتها بشكل كامل مع موسكو أو الجمع بين روسيا والغرب في يد واحدة، إلآّ أن الأطراف التي تستفيد بشكل أكبر من ملء الفراغ الناجم عن الضعف الروسي في آسيا الوسطى والقوقاز مثل تركيا والصين، وبدرجة أقل إيران في سوريا، تُشكل تحدياً للغرب قبل أن تكون منافساً لروسيا.

إقرأ أيضاً: