حمل عقدان من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان الكثير من التحوّلات في علاقات تركيا مع المنطقة العربية. يُمكن تقسيم هذه التحولات إلى ثلاث محطات بارزة. الأولى، قبل عام 2011 وكانت فيها العلاقات تتسم بالودية إلى حد كبير باستثناء التوترات المزمنة بين أنقرة بغداد بسبب العمليات العسكرية التركية ضد حزب العمال الكردستاني في شمال العراق وملف المياه. والثانية، وهي الأكثر أهمية، بين عامي 2011 و 2020، واتّسمت بكثير من التوترات بسبب انخراط تركيا في الحرب السورية ودعمها لتحولات الربيع العربي التي أدخلتها في صراع محاور مع القوى العربية البارزة المعارضة للربيع العربي وصعود تيار الإسلام السياسي، والثالثة بعد عام 2020، عندما أحدث أردوغان تحوّلاً جذرياً في العلاقات مع المنطقة العربية وأعاد إصلاحها مع خصوم سابقين كالمملكة العربية والسعودية والإمارات ومصر، فضلاً عن الانفتاح التركي على الحوار مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد. حتى الوقت الراهن، نجحت تركيا في تصفير خلافاتها مع معظم العواصم العربية باستثناء دمشق، لكنّ العملية التي تخوضها مع الأسد برعاية روسية تعمل بالفعل على خلق واقع جديد في العلاقات التركية السورية. حقيقة أن التحولات التي طرأت على العلاقات التركية العربية منذ ثلاثة أعوام جاءت في ظل ديناميكية جديدة برزت في السياسات الإقليمية، والتي ترتكز عموماً على خفض التصعيد الإقليمي والتكيف مع عصر جديد من المنافسة الجيوسياسية بين القوى الكبرى، تجعل من تحولات العلاقات التركية العربية ركناً أساسياً في أركان النظام الجديد الذي يتشكل في منطقة الشرق الأوسط.
في ضوء أن تركيا مُقبلة على انتخابات مهمة قد تؤثر نتائجها على سياساتها الخارجية عموماً، فإن أحد الأسئلة المطروحة تدور حول مستقبل علاقات أنقرة مع العالم العربي. إذا ما استطاع الرئيس رجب طيب أردوغان الاحتفاظ بالسلطة، فإنه لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأن تحدث تحوّلات غير متوقعة على العلاقات التركية العربية. سيُواصل أردوغان تعزيز البيئة الودية الجديدة مع المنطقة العربية ومن المرجح أن تكتسب مساعي المصالحة مع مصر زخماً أكبر بعد الانتخابات بلقاء بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وعبد الفتاح السيسي. كما من المرجح أن تخطو أنقرة ودمشق خطوات جوهرية نحو إصلاح العلاقات بلقاء بين أردوغان والأسد والتوصل إلى اتفاق شامل يرسم معالم المرحلة الجديدة في العلاقات التركية السورية. وعلى صعيد العلاقات مع دول الخليج، من المتوقع أن يواصل أردوغان النهج الإيجابي تجاه الرياض وأبو ظبي وتمتين الشراكة الجديدة مع الخليج على المستويات السياسية والاقتصادية وربما العسكرية. وفي ليبيا، من المرجح أن تُحافظ أنقرة على النفوذ الذي كسبته في هذا البلد مع تحول نحو التعاون مع مصر لتحقيق الاستقرار السياسي في ليبيا والدفع باتجاه إجراء انتخابات تُعالج الانقسام السياسي في البلاد وتُعيد توحيد مؤسساته العسكرية والسياسية والاقتصادية. مع أن دعم أردوغان للرئيس المصري الراحل محمد مرسي بعد إطاحة الجيش به في عام 2013 وسياسة القوة الصارمة التي انتهجها في المنطقة العربية بين عامي 2016 و2020 من خلال التدخل العسكري المباشر في سوريا والانخراط في الصراع الليبي تسببا بكثير من التوترات مع مصر والسعودية والإمارات، فإن أحد الأسئلة التي تتبادر إلى الأذهان تدور حول ما إذا كانت هذه الدول الثلاث تُفضل بقاء أردوغان في السلطة.
لا يُمكن الجزم بإجابة واضحة على هذا السؤال، لكنّ الوصول إلى تقدير واقعي له يقودنا إلى عوامل أساسية تُحدد تطلّعات الدول العربية عموماً من الانتخابات التركية.
ـ أولاً، يُمكن تقسيم الموقف العربي من الانتخابات التركية إلى قسمين. الأول، الدول العربية التي لديها علاقات استراتيجية مهمة مع تركيا ولم تتأثر أبداً بالتحولات التي طرأت على السياسات الإقليمية التركية خلال العقد الماضي. قطر على سبيل المثال، تُعد شريكاً استراتيجياً لتركيا في منطقة الخليج، وهي بالتأكيد تُفضل أن يبقى أردوغان في السلطة ولديها قلق من احتمال فوز المعارضة لأن الأخيرة سبق وانتقدت بشدة العلاقات التركية القطرية ووعدت بالتدقيق في بعض جوانب هذه العلاقات خصوصاً في مجالات التعاون العسكري والاستثمارات. ليبيا بطبيعة الحال لا تزال مقسمة بين حكومتين، وتأمل الحكومة التي يقودها عبد الحميد دبيبة في طرابلس أن يفوز أردوغان للحفاظ على الدعم التركي الحيوي له. في حال فوز المعارضة، فإن مستقبل استمرار الدور التركي في ليبيا سيكون محل شكوك وسيخدم أي تحول فيه الجنرال خليفة حفتر في الشرق. هناك الجزائر أيضاً التي بنت علاقات وثيقة مع تركيا في ظل عهد أردوغان وتُفضل بالتأكيد أن تستمر هذه العلاقات. لكنّ من غير المرجح أن يطرا تحول كبير عليها في حال فوز المعارضة في الانتخابات.
أما القسم الثاني، فيجمع الدول العربية التي شهدت علاقاتها مع تركيا توترات في العقد الماضي قبل إعادة إصلاحها. ومن أبرز هذه الدول السعودية والإمارات ومصر. على عكس قطر، فإن العلاقات التركية مع السعودية والإمارات لن تشهد تحولات سلبية كبيرة في حال فوز المعارضة في السلطة. حتى مع المرحلة الجديدة التي نشأت في العلاقات خلال الأعوام الثلاثة الماضية، حرصت الرياض وأبو ظبي على وضع هذه العلاقات في إطار مؤسساتي بمعزل عن الموقف من أردوغان، وبالتالي لم تكن عرضة للنقد من جانب المعارضة. علاوة على ذلك، قد تستفيد هذه الدول من أي تحول سياسي محتمل في تركيا إذا ما أدى إلى تراجع الانخراط التركي في القضايا العربية كما تعد المعارضة. الأمر نفسه ينسحب على مصر التي فضّلت انتظار الانتخابات لتتويج مساعي المصالحة مع تركيا. في ضوء ذلك، فإن الدول الثلاث ستبقى قادرة على صياغة علاقات جيدة مع تركيا في ظل حكم المعارضة. كما أنها ستُقدم مزايا العلاقات الاقتصادية والتجارية مع تركيا كورقة مهمة لجذب قليجدار أوغلو إلى الحفاظ على العلاقات الجديدة مع القاهرة والرياض وأبو ظبي لأن الصعوبات التي ستواجه الاقتصاد التركي بعد الانتخابات ستبقى قائمة بغض النظر عمن سيفوز بها.
ـ ثانياً، المعيار الأساسي الذي سيُحدد مستقبل العلاقات التركية العربية بعد الانتخابات يتركز على طبيعة السياسة الخارجية التي ستنتهجها أنقرة مع المنطقة العربية. مع الأخذ بعين الاعتبار دور الموقف التركي من صعود تيار الإسلام السياسي بعد الربيع العربي في تأزيم علاقات أنقرة مع القوى العربية البارزة، فإن توجه أردوغان في الأعوام الثلاثة الماضية للحد من تأثير هذا العامل على مقاربة تركيا للمنطقة العربية، هو توجه استراتيجي فرضه عاملين أساسيين، الأول، الانتكاسة الكبيرة التي مُنيت بها جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة بعد عام 2013 والتي دفعت أردوغان إلى النأي بالسياسة الإقليمية لتركيا عن هذه الجماعة، والثاني هو وصول أردوغان إلى قناعة بإن إصلاح العلاقات مع القوى العربية البارزة كمصر والسعودية والإمارات لا يُمكن أن يتحقق من دون الابتعاد عن الإخوان المسلمين. في ضوء ذلك، لم يعد هناك قلق في هذه العواصم العربية من احتمال عودة أردوغان إلى تبني سياسات إقليمية مشابهة لسياسات العقد الماضي. في حال فوز المعارضة في السلطة، فإن هذا القلق سيتبدد بشكل أكبر بطبيعة الحال لأن المعارضة تعد بإدارة السياسة الخارجية لتركيا مع المنطقة العربية بعيداً عن أي توجهات إيديولوجية ومن منظور التعامل على أساس المصالح التي تفرضها العلاقات الدولية.
ـ ثالثاً، مستقبل الانخراط العسكري التركي في بعض صراعات المنطقة كسوريا وليبيا بعد الانتخابات. من المؤكد أن هذا الانخراط لا يزال يُشكل قلقاً بالنسبة لتركيا ومصر والإمارات، وإن بدرجة أقل مقارنة مع العقد الماضي. مع ذلك، خلقت انعطافة أردوغان في سوريا في السنوات الأخيرة فرصة لمعالجة إشكالية الوجود العسكري التركي في شمال سوريا في المستقبل المنظور. وبالنسبة لليبيا، فإن المصالحة التركية المصرية تفتح آفاقاً أمام القاهرة وأنقرة للتعاون والتعايش مع دورهما في هذا البلد بما يُحقق مصالحهما. مع أن وعود المعارضة التركية بمصالحة فورية مع الأسد ولعب دور صانع السلام في ليبيا، تلتقي مع مصالح الدول العربية الراغبة في تقليص هامش التدخل العسكري التركي في هذين البلدين، إلآّ أن أردوغان أثبت أيضاً بانعطافته الإقليمية قدرته على إيجاد أرضية التعاون مع الخصوم الإقليميين السابقين في بعض الصراعات بما يخدم المصالح التركية والعربية.