يزور وزير الخارجية المصري سامح شكري تركيا الخميس لإجراء محادثات حول سبل دفع مساعي المصالحة بين البلدين. وستكون الزيارة الثانية لشكري إلى تركيا منذ اندلاع الأزمة بين البلدين منذ نحو عقد، كما تأتي بعد نحو شهر من زيارة أجراها وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو إلى القاهرة. في حين أن المحادثات الاستكشافية، التي بدأها البلدان قبل عامين، والزيارات المتبادلة على مستوى وزراء الخارجية، فضلاً عن اللقاء الذي جمع الرئيسين رجب طيب أردوغان وعبد الفتاح السيسي برعاية قطرية على هامش افتتاح المونديال في الدوحة العام الماضي، ساهمت في تعزيز البيئة السياسية الجديدة بين الطرفين لطي عقد من الخلاف، إلاّ أنها لم تُثمر بعد خطوات ملموسة لتتويج المصالحة على غرار إعادة تبادل السفراء بين البلدين. وعشية زيارة شكري، قال جاويش أوغلو إن إعادة تبادل السفراء ستكون مطروحة على جدول الأعمال. وفي حال أثمرت الزيارة اتفاقاً على هذه المسألة، فإن خطوة كهذه ستنقل العلاقات الجديدة بين أنقرة والقاهرة من مرحلة التهدئة والحوارات إلى مرحلة استعادة العلاقات بشكل طبيعي.
على الرغم من أن البلدين قطعا أشواطاً مهمة في طريق إصلاح العلاقات واستعادا التواصل على المستوى السياسي رفيع المستوى، إلآّ أن مسألة إعادة تبادل السفراء يُنظر إليها على أنها المؤشر الفعلي حول ما إذا كانت المصالحة أصبحت فعلياً في متناول اليد. حتى زيارة وزير الخارجية التركي إلى القاهرة الشهر الماضي، بدا أن التوافق على إعادة تعيين السفراء لا يزال بعيد المنال. قال وزير الخارجية المصري سامح شكري حينها إن إعادة تبادل السفراء ستتم في الوقت المناسب. وفُهم من تصريحاته أن البلدين لم يتمكنا بعد من معالجة جميع القضايا الخلافية. مع أن ملف جماعة الإخوان المسلمين، الذي كان سبباً رئيسياً في المقاطعة بين البلدين، تمت معالجته على نحو كبير في ضوء القيود التي فرضتها تركيا على نشاط الإخوان على أراضيها، والتي مهّدت الأرضية لإطلاق المحادثات الاستكشافية مع القاهرة قبل عامين، إلآّ أن أنقرة والقاهرة تقفان حتى الآن على طرفي نقيض من الصراع في ليبيا. تدعم تركيا حكومة الوحدة الوطنية الليبية التي يرأسها عبد الحميد دبيبة فيما تدعم مصر الحكومة الموازية التي يرأسها فتحي باشاغا. كبلدين دخلا في أزمة كبيرة منذ عام 2013 وانخرطا على مدى عقد في استقطاب إقليمي حاد وخاضا مواجهة عسكرية بالوكالة في ليبيا ووقفا على طرفي نقيض في الصراع على ثروات شرق البحر المتوسط، فإنه لن يكون من السهل معالجة كل جوانب الأزمة دفعة واحدة.
مع ذلك، فإن المنافع التي يتطلع إليها البلدان من وراء تعجيل المصالحة خصوصاً على صعيد تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما والتعاون في مجال الطاقة شرقي البحر المتوسط وتعزيز دورهما في الجغرافيا السياسية الإقليمية، التي تُعيد الديناميكيات الإقليمية الجديدة تشكيلها، تجعل من اختلاف المقاربات حول ليبيا قابلة للحل إذا ما توفّرت الإرادة السياسية. قبل كل ذلك، من المهم الأخذ بعين الاعتبار أن انخراط البلدين خلال السنوات الماضية في الصراع الليبي لم يؤد سوى إلى تعميق الأزمة بينهما، بينما استفادت قوى أخرى من هذا الاستقطاب بقدر أكبر، فإن من المنطقي القول إن أنقرة والقاهرة ترغبان في الاستفادة من دروس الماضي، لتجنّب العودة إلى هذا الانخراط والبحث بدلا من ذلك عن سبل لدفع مسار التسوية السياسية الليبية، بما يحقق مصالح الطرفين. انطلاقا من أن لدى الجانبين مصلحة مشتركة في إنجاح المرحلة الانتقالية الراهنة، فإنهما بحاجة أيضا إلى التعايش في ليبيا، والنظر إلى الفوائد التي يُمكن أن يجنياها من هذا التعايش.
في غضون ذلك، تعمل العلاقات الاقتصادية والتجارية، التي ظلت مستمرة رغم سنوات الأزمة، كأرضية مناسبة لدفع عملية المصالحة بين أنقرة والقاهرة. في عام 2018 تجاوز حجم التجارة الثنائية خمسة مليارات دولار، كما برزت القاهرة كأكبر شريك تجاري لتركيا في شمال إفريقيا. وفي نهاية عام 2022، ارتفع حجم التجارة الثنائية من 6.7 مليار دولار في عام 2021 إلى 7.7 مليار دولار. علاوة على ذلك، أصبحت تركيا أكبر مستورد للغاز المصري. تمنح اتفاقية ترسيم الحدود مع تركيا، التي تأخذ في الاعتبار الاتفاقية البحرية التركية الليبية لعام 2020، مصر زيادة كبيرة في منطقتها الاقتصادية الخالصة. كما يمكن أن يؤدي تخفيف التوتر بين تركيا ومصر في شرق البحر المتوسط إلى تخفيف التوترات بين ليبيا وكل من اليونان وقبرص الجنوبية.
في ضوء ذلك، فإن الظروف الراهنة المحيطة بالعلاقات التركية المصرية مساعدة إلى حد كبير في تدشين المصالحة عبر إعادة تبادل السفراء. يُمكن للبلدين أن يكونا أكثر قدرة على اتخاذ قرارات بخصوص التعاون في ليبيا بعد استعادة العلاقات بشكل طبيعي. بالنسبة لأنقرة، التي بدأت قبل عامين سياسة إقليمية جديدة لتصفير المشاكل مع خصومها السابقين، فإن المصالحة مع مصر تُشكل حجر زاوية رئيسي في السياسة الإقليمية الجديدة لأنقرة. كما أنّها تتطلع بشكل أساسي إلى الاستفادة من العلاقة الجديدة مع مصر لتعزيز وضعها في الصراع على ثروات شرق البحر المتوسط. تُبدي أنقرة منذ فترة رغبتها في إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع القاهرة. مع ذلك، لا ينبغي تجاهل التعقيدات المحيطة بقضية شرق المتوسط. لدى مصر علاقات جيدة مع اليونان وقبرص الجنوبية وتسعى لعدم التأثير عليها سلباً في أي مصالحة مع أنقرة. لذلك، فإنه في المستقبل المنظور من غير المتوقع أن نشهد تقدماً على صعيد إبرام اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بين البلدين لأن القاهرة لا تزال تُرهن أي تحول في سياستها مع تركيا في شرق المتوسط بمعالجة أنقرة لخلافاتها مع كل من أثينا ونيقوسيا وهو أمر لا يُمكن تصوّره بأي حال بالنظر إلى الخلافات التاريخية العميقة بين البلدان الثلاثة.
علاوة على ذلك، فإن الظروف الإقليمية التي عملت في السابق على تعقيد الأزمة التركية المصرية، تحوّلت الآن إلى عامل مُساعد للمصالحة. بدأت تركيا منذ عامين انعطافة في سياستها الإقليمية وأصلحت علاقاتها مع حلفاء مصر كالإمارات والسعودية وإسرائيل وقيّدت نشاط جماعة الإخوان المسلمين المصرية على أراضيها. رغم أنه لم تُعقد حتى الآن سوى جولتان فقط من المحادثات الاستكشافية (الأولى كانت في القاهرة في الخامس من مايو/أيار 2021 والثانية كانت في القاهرة في التاسع من سبتمبر/أيلول من العام نفسه)، فإن المحادثات خلقت أرضية بناءة لمشروع المصالحة وساعدت في تفكيك بعض العقد في الأزمة، كموقف تركيا من جماعة الإخوان والتهدئة السياسية والإعلامية بين البلدين، فضلا عن مساهمتها في الحد جزئيا من تأثير الخلافات التركية المصرية في الملف الليبي على مسار الحوار. كما أدى نجاح قطر في ترتيب لقاء قصير ومصافحة تاريخية بين الرئيسين أردوغان والسيسي على هامش افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم في الدوحة في 20 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 إلى إزالة عقبة أساسية في استعادة التواصل على مستوى القادة. وقد أعطى الرئيسان بعدها توجيهات لدبلوماسييهما لمنح زخم جديد لمسار المصالحة.
علاوة على ذلك، خلق زلزال السادس من فبراير/شباط مساحة لدبلوماسية الكوارث، التي نشطت في المنطقة، لتحريك المياه الراكدة في مسار المصالحة التركية المصرية. وقد لعبت المساعدات التي قدّمتها مصر إلى تركيا إلى جانب زيارة وزير الخارجية المصري لها دورا حيويا في تعزيز التواصل السياسي بين البلدين على مستوى دبلوماسي رفيع. عندما يتطور التواصل إلى هذا المستوى، فإن الرؤساء ووزراء الخارجية يلعبون دورا مهما في اتخاذ القرارات التي تُساعد في دفع عملية المصالحة. في منطقة تنخرط فيها القوى الفاعلة منذ عامين في عملية واسعة النطاق لإعادة إصلاح العلاقات فيما بينها، تعمل الديناميكية السريعة للسياسات الإقليمية على تشكيل شرق أوسط جديد يتركز على مبدأ التعاون الإقليمي بدلا من المنافسة.