مستقبل دور تركيا الخارجي بعد الانتخابات

يراقب العالم باهتمام بالغ انتخابات تركيا وتأثيرها المحتمل على السياسات الخارجية لأنقرة. مع أن المعارضة تعد بتبني سياسة مختلفة عن أردوغان لا سيما في رؤيتها لهوية تركيا الجيوسياسية لكنها ستواجه صعوبة في الابتعاد عن نهج أردوغان المتوازن بين الشرق والغرب.

تحظى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي ستُجرى في تركيا في الرابع عشر من مايو أيار المقبل  بأهمية كبيرة في الخارج كما الداخل. بالنظر إلى تأثير أنقرة القوي في القضايا الإقليمية والدولية، والذي تنامى بشكل كبير خلال عقدين من حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، أضحت البلادً لاعباً رئيسياً في إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة بها وفاعلاً بارزاً في قضايا عالمية. منح الفراغ الأمني والسياسي الذي شهدته المنطقة العربية بعد اندلاع الربيع العربي مطلع العقد الماضي تركيا مجالاً للتحول إلى قوة إقليمية رئيسية. كما ساعدتها الحرب الروسية الأوكرانية في تعظيم مكانتها الجيوسياسية بالنسبة لروسيا والغرب. يُضاف إلى ذلك، التحول الكبير الذي قاده أردوغان في إحداث توازن بعلاقات تركيا بين الشرق والغرب من خلال تعزيز التوجهات الأوراسية مع الحفاظ على هوية تركيا الأطلسية. في ظل البصمة الخاصة التي وضعها أردوغان على السياسية الخارجية التركية، والاختلاف الجذري الذي تعد المعارضة التركية بإحداثه على السياسة الخارجية للبلاد في حال وصلت إلى السلطة، فإن مستقبل الدور الخارجي لتركيا سيتأثر حتماً بالحالة السياسية الداخلية التي ستُفرزها الانتخابات المقبلة.

على عكس أردوغان، الذي أنشأ على مدار عقدين من الزمن علاقات شخصية بارزة مع مختلف قادة دول العالم بمن فيهم القادة الغربيين الذين وجدوا صعوبة بالغة في التعامل معه، لكنّه لم يستطيعوا تجاهله، فإن زعيم المعارضة كمال قليجدار أوغلو الذي يسعى للفوز بالرئاسة يفتقر إلى قدرة مشابهة لأردوغان في إدارة السياسة الخارجية التركية. مع ذلك، تعد المعارضة بأن تُدير السياسة الخارجية بطريقة مختلفة جذرياً عن أردوغان من حيث طبيعة اتخاذ القرارات وإشراك الجهات المعنية في صنع السياسات الخارجية. في العقدين الماضيين، أشرف أردوغان بشكل مباشر على صنع السياسات الخارجية، لكنّ المعارضة تعد بأن تمنح دوراً أكبر لوزارة الخارجية في الإشراف على السياسات الخارجية. في المبدأ، فإن لعب وزارة الخارجية دوراً رئيسياً في تشكيل السياسة الخارجية يُساعد في جعل هذه السياسة مؤسساتية بشكل أكبر. مع ذلك، فإنه في حالة تركيا اليوم، لا يُمكن التقليل من أهمية الدور الذي يجب أن يلعبه الرئيس في تشكيل هذه السياسة.

في بعض القضايا الخارجية الأساسية التي تنخرط فيها تركيا كقضية شرق المتوسط والنزاع التاريخي مع اليونان والمسألة القبرصية، فإنه من غير المُرجّح أن نشهد تحولاً بارزاً في الإدارة التركية لها بغض النظر عن أي تحول سياسي محتمل في تركيا بعد الانتخابات. يكمن السبب في ذلك في هذه القضايا تُديرها أنقرة من منظور قومي خالص بعيداً عن التوجّهات الحزبية للرئيس، وإن عزّزت إدارة أردوغان الصدامية لها من التوترات مع الغرب. باستثناء أن الدول الغربية ستجد في شخصية بديلة عن أردوغان محاوراً أكثر هدوءاً ورغبة في إدارة العلاقات معها بعيداً عن أسلوب أردوغان الذي لم يتردد في اللعب مع الغرب على حافة الهاوية أكثر من مرّة. مع ذلك، لا ينبغي رفع الرهان كثيراً في بروكسل وواشنطن على أن تركيا بدون أردوغان ستُحدث تحولاً إيجابياً كبيراً في العلاقات معهما. على اعتبار أن المشكلة مع اليونان والقضية القبرصية شكّلتا على الدوام عقبة في تطوير العلاقات التركية الأوروبية، فإن هذه العقبة ستبقى قائمة على المدى البعيد في ظل حكم المعارضة، وإن بدرجة أقل من حيث تأثيرها السلبي على مسار العلاقات. 

ستكون العلاقات المستقبلية لتركيا مع الولايات المتحدة وروسيا الأكثر تأثراً في أي تحول سياسي تركي محتمل. خلال حكم أردوغان، توترت العلاقة مع واشنطن بشكل كبير بفعل عدّة عوامل أبرزها العلاقات القوية التي أقامها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين لا سيما بعد النصف الثاني من العقد الماضي، وتداعيات محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة على أردوغان في نفس الفترة، فضلاً عن الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها أنقرة الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً في تركيا. في حين أن تحالف المعارضة يُبدي رغبته الواضحة في إصلاح العلاقات مع الغرب وانتقد بشدة بعض خطوات أردوغان إزاء روسيا كشراء منظومة إس أربعمئة الروسية وشكك زعيم المعارضة كمال قليشدار أوغلو بجدواها، فإنه من المفترض أن يؤدي فوز المعارضة إلى إعطاء دفعة إيجابية للعلاقة مع واشنطن. لكنّ الواقع أكثر تعقيداً. حقيقة أن تدهور العلاقات التركية الأمريكية أثناء حكم أردوغان ارتبطت بمجموعة العوامل المتداخلة وكان التقارب مع روسيا أحد نتائجها، تجعل من الصعب الاعتقاد بأن هذه العلاقة ستتحسن بشكل كبير بدون أردوغان. إلى جانب إشكالية العلاقات الأمريكية بالوحدات الكردية، والتي لن يكون بمقدور المعارضة التغاطي عنها كونها مرتبطة بمسألة الأمن القومي التركي، تبرز إشكالية أخرى تتمثل بالوجود العسكري الذي أقامته الولايات المتحدة في اليونان واتجاهها لتعزيز التعاون الأمني والدفاعي مع قبرص الجنوبية بعد رفع حظر الأسلحة المفروض عليها. مثل هذه القضايا ستبقى عقبة رئيسية كبيرة في طريق إصلاح العلاقات بين البلدين على المدى البعيد.

بالنسبة لروسيا، فإن الانتخابات التركية تبدو مصيرية لمستقبل العلاقة مع تركيا. في حال فوز أردوغان، من غير المرجح أن تتأثر هذه العلاقات، لكنّ الأمر قد يختلف في حال وصول المعارضة للسلطة. سيُشكل ذلك خبراً سيئاً للغاية لبوتين الذي استطاع بفضل علاقته الشخصية الوثيقة مع أردوغان تطوير العلاقات التركية الروسية إلى شراكة جيوسياسية واسعة ولن يجد في رئيس غير أردوغان ذلك القدر من التعاون الوثيق على مستوى القادة. في ضوء أن الدول الغربية تتعاطى مع الشراكة التركية الروسية على أنّها عقبة أساسية في طريق إصلاح العلاقات مع أنقرة، فإنه من المفترض أن يُساهم تحول سياسي تركي في إزالة هذه العقبة. لكن الواقع يصطدم مرّة أخرى بالأمنيات. رغم أن سياسة التوازن بين الشرق والغرب بدت نتاجاً واضحاً لسياسة أردوغان الخارجية، إلآّ أنها في الواقع نتيجة رئيسية للجغرافيا السياسية التي حتّمت على أنقرة تبني هذا النهج. حتى لو رغبت المعارضة في تقليص العلاقة مع روسيا لحساب الغرب، فإنه سيكون من الصعب عليها تجاهل ارتدادات مثل هذا التوجه على مصالح تركيا الأساسية مع موسكو في قضايا أساسية كالطاقة والمصالح المتداخلة في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز والبحر الأسود وسوريا. كما أن الموقف المتوازن لتركيا بين روسيا وأوكرانيا ارتبط بشكل وثيق بمصالح تركيا وسيبقى كذلك على المدى البعيد. 

تحول آخر بارز قد يطرأ على السياسة الإقليمية لتركيا بعد الانتخابات في حال فوز المعارضة، لكنه سيكون محدوداً أيضاً بالنظر إلى أن أردوغان أحدث انعطافة هائلة في السياسة الإقليمية خلال العامين الأخيرين. مع ذلك، تتبنى المعارضة نهجاً مختلفاً في السياسات الإقليمية من حيث انفتاحها الصريح على إعادة العلاقات مع دمشق والتشكيك بجدوى الاندفاعة التركية الإقليمية خلال العقد الماضي. في حين أن قليجدار أوغلو انتقد بشدة الانخراط التركي في الحرب السورية وأبدى دعماً واضحاً لنظام بشار الأسد، فإنه سيكون مكبلاً في السياسة التركية المستقبلية في سوريا بحسابات الأمن القومي التركي. لا يزال من غير الواضح كيف ستتعامل المعارضة، كما أردوغان، مع مستقبل الوجود العسكري التركي في شمال سوريا والذي يرتكز بدرجة رئيسية على حسابات الأمن القومي المتعلقة بالصراع مع الحالة الكردية المسلحة في شمالي سوريا والعراق. في ضوء الانعطافة الراهنة التي أحدثها أردوغان في السياسة السورية، فإن المعارضة سترث أرضية مناسبة للتفاهم مع دمشق على مستقبل الوجود التركي. أما في العراق، فإنه من غير المُرجح أن نشهد تحولاً في السياسة التركية إزاء حزب العمال الكردستاني كون هذه المُشكلة لم تكن نتاجاً لحكم أردوغان بقدر ارتباطها بالصراع التاريخي مع الحزب.

إقرأ أيضاً: