Do something today that your future self will thank you for.

هل بقاء الأسد يصنع السلام في سوريا؟

تعتقد الكثير من دول المنطقة أن الأسد انتصر في الحرب ولا مفر من الانفتاح عليه، لكن التعامل مع القضية السورية على أنها صراع عسكري غير متكافئ لا يساعد في إنهاء الحرب. لا يُمكن للسلام أن يتحقق من دون إحداث تغيير سياسي حقيقي يُقنع السوريين بأن بلدهم تغير.

قبل أيام، احتفل السوريين في المناطق التي لا تزال تحت سيطرة المعارضة في شمال غرب البلاد بالذكرى السنوية الثانية عشرة للثورة على نظام الرئيس بشار الأسد. لا يزال كثير من السوريين ممن يعارضون الأسد يرفضون العودة إلى ظله، لكنّ الوضع بعد اثني عشر عاماً من الحرب يبدو مُحبطاً لهم إلى حد كبير. لم تعد للمعارضة مناطق خاضعة لها سوى تلك البقعة الجغرافية في شمال غرب البلاد. كما أن تركيا، التي تُدير أجزاء واسعة من تلك المنطقة وأصبحت الداعم الوحيد للمعارضة السورية، أحدثت تحولاً جذرياً في موقفها من الأسد وترغب بإصلاح العلاقات معه.

علاوة على ذلك، منذ الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب تركيا ومناطق في سوريا في السادس من فبراير شباط الماضي، يعيش الأسد أفضل أيامه بعد الحرب. لقد استقبل في دمشق وفوداً وزارية وبرلمانية عربية وقام بثلاث زيارات خارجية منذ تلك الفترة، أولها كانت لسلطنة عمان والثانية لموسكو والثالثة لدولة الإمارات العربية المتحدة. كما أن المملكة العربية السعودية، التي ظلّت حتى وقت قريب متمسكة برفض الانفتاح على الأسد، بدأت تُحدث تغييراً في سياساتها السورية. يشعر الأسد بفائض قوة وبثقة في الخروج من العزلة لدرجة أنّه لا يُبدي أي اهتمام لعرض الرئيس التركي رجب طيب أردوغان باللقاء معه. 

السبب الوحيد الذي يُبقي معارضي الأسد متفائلون بإمكانية التخلص من نظامه هو أن الدول الغربية لا تزال متمسكة بموقفها الرافض للتعامل معه وتفرض عقوبات عليه لإجباره على القبول بتسوية سياسية للحرب. مع ذلك، لم يعد للولايات المتحدة تأثير قوي على حلفائها في المنطقة لإقناعهم بإبقاء الأسد معزولاً. كما أن مستقبل الدور الأمريكي في الشرق الأوسط أصبح مثار شك. لم يعد الحلفاء التقليديون لواشنطن في المنطقة كدول الخليج يثقون في الولايات المتحدة ويعتقدون أنّها وصلت إلى مرحلة ضعف لا تُساعدها في الحفاظ على حضورها القوي في الشرق الأوسط. في غضون ذلك، فقدت المملكة العربية السعودية رغبتها في مواصلة مواجهة الدور الإيراني في المنطقة وقد استعانت بالصين مؤخراً للتوسط بينها وبين إيران في إبرام اتفاقية لإعادة العلاقات الدبلوماسية وتهدئة التوترات الإقليمية معها. يُعيد الشرق الأوسط تشكيل جغرافيته السياسية بشكل يُقوض أي آمال للسوريين الرافضين للأسد بالتخلص من حكمه.

لقد أحدثت الحرب السورية تداعيات كبيرة على دول الجوار السوري لا سيما تركيا. كنتيجة لسياسة الباب المفتوح الذي انتهجها أردوغان أمام اللاجئين السوريين، جلب الرئيس التركي لنفسه الكثير من الصعوبات الداخلية وبات يبحث عن وسيلة لإعادة اللاجئين إلى بلادهم. في الدول الأوروبية أيضاً، لم يعد اللاجئون السوريون يحظون بترحيب واسع كما كان الحال خلال السنوات الأولى للحرب وتضغط بعض الدول على الاتحاد الأوروبي للتخلي عن قواعده الصارمة في إعادة ترحيل اللاجئين من أجل إيجاد مبرر قانوني لإعادتهم إلى بلاده.  

تستخدم دولاً أوروبية بينها إيطاليا واليونان والمجر لنفوذها داخل الاتحاد الأوروبي للضغط من أجل تغيير سياسات الاتحاد في سوريا والبحث عن سبل للتعاون المباشر مع دمشق. على الرغم من أن الجدل بين الأوروبيين بهذا الخصوص لم يظهر إلى العلن، إلآّ أن التغيير في بعض المواقف الأوروبية من الأسد بدأ يظهر بالفعل في العامين الأخيرين. منذ عام 2020، أعادت بعض الحكومات الأوروبية إقامة شكل من أشكال العلاقات الدبلوماسية مع دمشق بما في ذلك بلغاريا والمجر واليونان التي أرسلت قائماً بالأعمال إلى دمشق. كما وصفت الدنمارك المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية بأنها آمنة لعودة اللاجئين إليها. تشتكي دول جنوب ووسط أوروبا بشكل متكرر من القواعد الصارمة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي إزاء العودة الآمنة والطوعية والكريمة للاجئين السوريين بحجة أنها تعيق عمليات العودة وتغذي ظاهرة الهجرة. على الرغم من أن هذه الدول تبدو متضررة بشكل أكبر مقارنة بدول الشمال، إلآّ أنّها تستخدم هذه المظلومية لإيجاد مسوغ لانفتاحها على دمشق.

تلعب التحوّلات التي تطرأ على أوروبا في ظل صعود أحزاب اليمين المتطرف والضغوط الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، دوراً رئيسياً في إثارة نقاش داخل أوروبا حول تبني استراتيجية جديدة أقل حدّة تجاه النظام السوري. علاوة على ذلك، أفسح تحول مسار الصراع السوري في السنوات الأخيرة المجال أمام الأصوات المطالبة بالانفتاح على الأسد للتعامل ببراغماتية مع الحالة السورية والتخلي عن المسوغ الأخلاقي في التعاطي مع الحالة السورية من خلال الإقرار بأن الأسد انتصر في الحرب وبأن نظامه الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار في البلاد. تبدو هذه المقاربة قصيرة النظر بشكل يصعب معه الاعتقاد بأنها ستؤدي إلى تأمين المصالح الأوروبية. لا يزال الأسد عاجزاً عن إدارة سوريا كما كان قبل الحرب، كما أن الكثير من السوريين بمن فيهم أولئك الذين يعيشون في مناطق سيطرة الدولة يُفضّلون الهجرة خارج البلاد على العيش في بلد مفكك يحتاج عقوداً طويلة للتعافي من الحرب.

حتى الوقت الراهن، ما يزال الاتحاد الأوروبي يحتفظ بمجموعة واسعة من العقوبات على النظام والكيانات المرتبطة به ويواصل منع أي أنشطة متعلقة بالمساعدات الإنسانية من شأنها أن تفيد الأسد. لكنّ الجدل داخل الاتحاد بدأ يظهر حول إمكانية توسيع مفهوم التعافي المبكر لسوريا من خلال تطوير مشاريع التنمية المحلية المحدودة وفتح الباب أمام أنشطة إغاثية أخرى من شأنها أن ترتقي إلى المساهمة في إعادة إعمار سوريا بمعزل عن الموقف الأوروبي من التسوية السياسية. مثل هذا الجدل ينطوي على مخاطر ليس فقط على صعيد إعادة منح شرعية للأسد والقفز على ضرورة تحقيق العدالة ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، بل أيضاً على صعيد السياسة الأوروبية نفسها. في ضوء صعود أحزاب اليمين المتطرف ونجاحها في الوصول إلى السلطة في بعض الحالات كإيطاليا مؤخراً، فإنه من المرجح أن تزداد الانقسامات بين الأوروبيين بشأن الموقف من الأسد. سيُرسل ذلك أيضاً إشارة إلى الأسد وحلفائه بأنهم قادرون على إنهاء كسر العزلة الغربية للنظام من دون أن يُضطر إلى تقديم تنازلات في التسوية السياسية.

بالنسبة لدول المنطقة، فإنها تعتقد أيضاً أن الأسد انتصر في الحرب وأن الانفتاح عليه لا مفر منه. مع أنّ الكثير من هذه الدول تسعى للتخلص من تداعيات الحرب عليها من حيث الأمن ومسألة اللاجئين، إلآّ أن التعامل مع القضية السورية على أنّها مُجرد صراع عسكري غير متكافئ، لا يؤدي بأي حال إلى تحقيق السلام في سوريا. لا يُمكن اختزال القضية السورية بأبعادها العسكرية أو بصراع مشاريع إقليمية ودولية في سوريا. قد يؤدي الانفتاح التركي على دمشق إلى مساعدة أنقرة في معالجة مسألة اللاجئين وتقوية موقفها في صراعها مع المشروع الانفصالي للوحدات الكردية، لكنّ السلام الحقيقي في سوريا وحده من يُحقق مصالح تركيا بعيدة المدى في سوريا. والحال نفسه ينطبق على الدول العربية. إن إعادة تأهيل نظام الأسد لن يُقوض التأثير الإيراني عليه ولن يُشجع اللاجئين السوريين على العودة قبل رؤية أن بلادهم تغيّرت. كما أن إنهاء الصراع السوري لا يُمكن أن يتحقق من دون الضغط على الأسد للقبول بتسوية سياسية تُلبي تطلعات الكثير من السوريين  ببناء دولة جديدة لا تحكمها عائلة واحدة وتسود فيها العدالة المجتمعية والحريات السياسية.

إقرأ أيضاً: