Do something today that your future self will thank you for.

تركيا ومصر تقتربان من طي عقد من الخصومة

بعد عقد من القطيعة الدبلوماسية، تقترب تركيا ومصر من إتمام مصالحة ستكون أحدث فصل في تحولات الجغرافيا السياسية الإقليمية التي تعيد تشكيل الشرق الأوسط وستخلق آفاقاً جديدة للبلدين للتعاون في مجال الطاقة وتقاسم النفوذ في ليبيا.

يتوجه وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو السبت إلى القاهرة في أول زيارة رسمية منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين قبل عشر سنوات. وتأتي الزيارة بعد أسبوعين من زيارة مماثلة أجراها وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى تركيا للتضامن معها بعد الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب البلاد في السادس من فبراير شباط الماضي. ويُشكل تبادل الزيارات بين أنقرة والقاهرة على مستوى وزراء الخارجية علامة جديدة على رغبتهما في المصالحة وطي عقد كامل من القطيعة الدبلوماسية.

في منطقة تنخرط فيها القوى الفاعلة منذ عامين في عملية واسعة النطاق لإعادة إصلاح العلاقات فيما بينها، تعمل الديناميكية السريعة للسياسات الإقليمية على تشكيل شرق أوسط جديد يتركز على مبدأ التعاون الإقليمي بدلاً من المنافسة. تركيا ومصر أكبر قوتان إقليميان من حيث عدد  السكان والمكانة العسكرية وبدرجة أقل الاقتصاد. لذلك، فإن إعادة تطبيع العلاقات تخلق آفاقاً جديدة لكليهما للتعاون الثنائي في مجالات حيوية متعددة بدءاً من الاقتصاد والطاقة وصولاً إلى التوصل إلى مقاربة مشتركة لحل خلافاتهما بشأن ليبيا وهي عقبة ظلت حتى وقت قريب عائقاً أساسياً أمام إتمام المصالحة.

على الرغم من أن البلدين شرعا في مايو أيار عام 2021 في عقد محادثات استكشافية بينهما لبحث سبل إصلاح العلاقات، إلآّ أنه لم تُعقد منذ تلك الفترة سوى جولتين من هذه المحادثات ولم تُفلح في إحداث تقدم جوهري في العلاقات. كما أن مسار الحوار الثنائي أصيب بانتكاسة بعد تعليق القاهرة المحادثات الاستكشافية في أكتوبر تشرين الأول الماضي رداً على الاتفاقات الجديدة التي أبرمتها تركيا مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية التي يرأسها عبد الحميد الدبيبة. في حين أن الخلافات بين القاهرة وأنقرة بخصوص الموقف من ليبيا ظلت عصية على الحل، فقد تعمّقت بشكل أكبر بعد وقوف البلدين على طرفي نقيض إزاء الانقسام الجديد في السلطة التنفيذية في ليبيا.

مع ذلك، فإن دبلوماسية الكوارث التي نشطت في المنطقة بعد الزلزال ساهمت في إذابة الجليد في مسار المصالحة بين أنقرة والقاهرة وفتحت آفاقاً جديدة. كان البلدان قد نجحا بالفعل في إحداث خرق كبير في هذا المسار عندما التقى الرئيسان رجب طيب أردوغان وعبد الفتاح السيسي للمرة الأولى على هامش افتتاح بطولة كأس العالم لكرة القدم في قطر، لكنّه بعد ذلك، لم يطرأ تحول إضافي على المحادثات الثنائية. في حين أن القاهرة بدت مترددة في السابق في إنهاء القطيعة مع أنقرة، فإنها أصبحت اليوم أكثر استعداداً للمضي بخطوات ملموسة مع أنقرة. 

هناك ثلاثة عوامل تدفع مسار إصلاح العلاقات بين تركيا ومصر في الوقت الراهن.

ـ أولاً، لم تعد القضية الأساسية التي أشعلت الأزمة بين البلدين والمتمثلة في معارضة أنقرة للإطاحة بحكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 2013 ذات تأثير كبير على ديناميكية الخلافات. أدى تراجع تيار الإسلام السياسي في المنطقة بعد سنوات قليلة من اندلاع  الربيع العربي في عام 2011 إلى تغيير جذري في المقاربة التركية للحالة السياسية العربية، حيث بدأت أنقرة تتطلع بشكل أكبر إلى منافع إعادة ضبط علاقاتها القوى الفاعلة في المنطقة العربية، والتي أثبتت قدرتها على إحباط تحولات الربيع العربي. علاوة على ذلك، بدأت أنقرة منذ عامين في تقييد نشاط جماعة الإخوان المسلمين المصرية  على أراضيها من أجل خلق أرضية مناسبة للشروع في محادثات مع القاهرة لإعادة إصلاح العلاقات.

ـ ثانياً، رغم أن الأزمة بين تركيا ومصر خلال العقد الماضي أدّت إلى إحداث شلل كامل في العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين، إلآّ أنها لم تؤثر بشكل كبير على العلاقات الاقتصادية والتجارية. في الوقت الذي تُعاني فيه مصر من صعوبات اقتصادية متزايدة، فإنها تولي أهمية متزايدة لدفع هذه العلاقات وجذب المزيد من الاستثمارات التركية إلى البلاد. في الشهر الماضي، التقى رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي مع وفد لممثلي الشركات التركية في مؤشر على دخول العلاقات التجارية بين البلدين ولا سيما الاستثمارات التركية في مجالة الصناعة المصرية مرحلة جديدة في ظل التحسن التدريجي في العلاقات السياسية. وبحسب بيان رئاسة مجلس الوزراء المصري، تخطط الشركات التركية لاستثمارات جديدة في مصر، تصل قيمتها إلى 500 مليون دولار أمريكي. يزيد حجم الاستثمارات التركية في مصر على ملياري دولار أمريكي. كما يبلغ التبادل التجاري بين البلدين سبعة مليارات دولار منها ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار صادرات مصرية إلى تركيا. علاوة على ذلك، فإنه بحلول الربع الأول من العام الماضي أصبحت تركيا أكبر مشتر للغاز المسال المصري. 

ـ ثالثاً، ساعدت التحولات التي أحدثتها تركيا في علاقاتها مع خصوم إقليميين سابقين كالإمارات والسعودية وإسرائيل في الحد من الاستقطاب الإقليمي التركي ـ العربي الذي عمل على تعميق التوترات بين أنقرة والقاهرة. كما أنّه بعد إصلاح العلاقات التركية الخليجية، أصبحت مصر الدولة الوحيدة في التكتل الإقليمي المناهض لتركيا سابقاً، التي لم تُصلح علاقاتها مع أنقرة . وبالتالي، فإن الظروف الإقليمية الجديدة التي برزت خلال العامين الماضيين ساعدت على نحو كبير في تعزيز الأرضية التصالحية بين تركيا ومصر. 

مع ذلك، لا تزال العقبة الأساسية التي تعترض فرص دفع المصالحة بين تركيا ومصر تتمثل بشكل أساسي في موقف البلدين في ليبيا، لكنّ الدفعة الجديدة من التقارب تُشير إلى أن البلدين يُفضلان التركيز على أولوية الحوار البناء كسبيل لمعالجة الخلافات بينهما بشأن ليبيا. لطالما أبدت أنقرة رغبتها في إعادة تبادل السفراء بين البلدين وقد تؤدي زيارة جاوش أوغلو إلى القاهرة إلى توافق بهذا الخصوص.

ما يدفع للتفاؤل في إمكانية إحداث تقدم في العلاقات التركية المصرية أن الأرضية الجديدة التي يسير عليها الحوار الآن تبدو أكثر صلابة في ضوء أن التواصل الدبلوماسي لم يعد مقتصراً منذ انطلاق المحادثات الاستكشافية على مستوى نواب وزراء الخارجية، بل أصبح على مستوى القادة وزراء الخارجية. من شأن دبلوماسية القادة أن تُساعد أردوغان والسيسي على اتخاذ خطوات كبيرة نحو طي صفحة القطيعة وفتح مرحلة جديدة.

علاوة على الفرصة التي خلقتها دبلوماسية الزلزال والدور الذي يقوم به الوسطاء الإقليميون في تشجيع القاهرة وأنقرة على المضي في إعادة العلاقات، فإن السيسي أصبح أكثر إدراكاً للحاجة إلى مقابلة الانفتاح التركي بخطوات إيجابية. أصبح موقف مصر في ليبيا أكثر ضعفاً بفعل رهانها على دعمها حكومة فتحي باشاغا من أجل قلب موازين القوى الليبية لصالحها، بعدما فشل في دخول العاصمة طرابلس وإطاحة حكومة الدبيبة. كما يؤدّي هذا الرهان إلى تعميق العلاقة بين أنقرة وحكومة الدبيبة بشكل متزايد، وهو ما يزيد من تهميش المصالح المصرية في ليبيا. علاوة على ذلك، فإن ضعف موقف القاهرة في معادلة الصراع على شرق المتوسط بعد نجاح أنقرة في تكريس دورها في ليبيا، وتفكيك تكتل إقليمي بهدف عزلها، من خلال إصلاح علاقاتها مع خصومها السابقين ومساعيها الراهنة مع تل أبيب للتعاونٍ في مجال الطاقة. 

في ضوء ذلك، فإنّ الخيار المربح والأكثر واقعية أمام مصر هو الالتفات بشكل أكبر إلى مصالحها مع تركيا بمعزل عن تموضعها الإقليمي الذي لم يعد مؤثراً في تعزيز موقفها، كما كان الحال قبل العامين الماضيين، إذ يزيد من ضعفها بقدر أكبر مما هو الحال عليه بالنسبة لأنقرة.

بالنظر إلى أنّ انخراط البلدين خلال السنوات الماضية في الاستقطاب الليبي لم يؤدّ سوى إلى تعميق الأزمة بينهما، بينما استفادت قوى أخرى من هذا الاستقطاب بقدر أكبر، فإن من المنطقي القول إن أنقرة والقاهرة ترغبان في الاستفادة من دروس الماضي، لتجنّب العودة إلى هذا الانخراط والبحث بدلاً من ذلك عن سبل لدفع مسار التسوية السياسية الليبية، بما يُحقّق مصالح الطرفين. انطلاقاً من أن لدى الجانبين مصلحة مشتركة في إنجاح المرحلة الانتقالية الراهنة، فإنّهما بحاجة أيضاً إلى التعايش في ليبيا، والنظر إلى الفوائد التي يُمكن أن يجنياها من هذا التعايش. أخيراً، فإن التقارب المستجد في العلاقات التركية المصرية لا يُمكن عزله عن السياق الإقليمي المرتبط بسوريا. بينما كانت التدخلات العسكرية التركية في شمال سوريا أحد أسباب تأزيم العلاقات بين أنقرة والمحور العربي بقيادة مصر والسعودية والإمارات، فإن الانعطافة الأخيرة التي أحدثتها تركيا مؤخراً على موقفها من الأسد والانفتاح العربي المتزايد على دمشق، يُشكلا أرضية أخرى لتعزيز العلاقات الجديدة بين تركيا ومحيطها العربي.

إقرأ أيضاً: