اضطرت “الإدارة الذاتية” التي تُديرها “وحدات حماية الشعب” الكردية في شمال سوريا إلى تأجيل انتخابات المجالس المحلية التي كانت تنوي إجراءها هذا الشهر بسبب ما قالت إنه استجابة لمطالب أحزاب وتحالفات سياسية في المنطقة. لكن عاملين رئيسيين ضاغطين يظهران كسبب لخطوة التأجيل، وهما التهديد التركي برد فعل قوي والضغط الأمريكي على الوحدات لتأجيل الانتخابات كنتيجة لهذا التهديد. مع ذلك، فإن إصرار “الإدارة الذاتية” على إجراء الانتخابات في أغسطس آب يعني أن مخاطر تصعيد كبير جديد في شمال سوريا لا تزال قائمة. وهذه الخطوة – إن حصلت – ستختبر ثلاثة مسارات حاسمة في تحديد مُستقبل مشروع الحكم الذاتي للوحدات. الأول يتمثل بالمدى الذي يُمكن أن تذهب إليه تركيا من أجل تحقيق هدفها المُعلن بمنع تأسيس دويلة تحت سيطرة حزب “العمال الكردستاني” على حدودها الجنوبية. والثاني ما إذا كانت الانتخابات ستخلق حافزاً قوياً لأنقرة ودمشق لتنسيق تحركهما من أجل تقويض “الإدارة الذاتية”. أما المسار الثالث، فيتمثل بالحدود التي يُمكن أن تصلها واشنطن في حماية حليفها الكردي إذا ما تعرض لتهديد وجودي.
ومع أنه يصعب تقدير الكيفية، التي يُمكن أن تتحرك بها المسارات الثلاثة، إلآّ أن تجربة انهيار الإدارة الأرمينية الانفصالية في إقليم قره باغ الأذربيجاني في سبتمبر أيلول الماضي، تُساعد في فهم الديناميكيات المتحولة في تجربة “الإدارة الذاتية” وآثارها عليها بالنظر إلى وجود وجهي شبه رئيسيين بين الحالتين. الأول يتمثل بالنزعة العرقية، التي ساهمت في ظهور مشاريع الانفصال والحكم الذاتي في المنطقتين، ولكنّها لم تكن كافية وحدها لإنجاحهما. مع أن “الإدارة الذاتية” لا تزال قائمة منذ أكثر من عقد، إلاّ أنّها تبدو أقل قدرة على الاستمرار لفترة أطول على غرار تجربة قره باغ، التي استمرت لنحو ثلاثة عقود. أما الثاني فيتمثل بنفس العوامل الإقليمية والدولية المؤثرة على ديناميكيات التجربتين. في قره باغ، استغل الانفصاليون تفكك الاتحاد السوفيتي للسيطرة على الإقليم، لكنّهم لم ينجحوا قط في الحصول على اعتراف دولي. وفي سوريا، استغلت الوحدات الكردية الحرب والفراغ الأمني الذي خلّفته والدعم الأمريكي لها لإعلان “الإدارة الذاتية”.
في حين أن التحالف بين روسيا وأرمينيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لعب دوراً أساسياً في مساعدة الانفصاليين ويريفان للحفاظ على الأمر الواقع الذي فُرض بالقوة في الإقليم قبل انهياره، فإن الدعم الأمريكي للوحدات الكردية، كان حاسماً في تأسيس الإدارة الذاتية. وبهذا المعنى، تبدو أوجه الشبه متقاربة بين الإدارة الانفصالية الأرمنية والإدارة الذاتية الكردية من حيث الدور الذي لعبته قوتين عالميتين كبيرتين في تأسيسهما. لم تعترف موسكو قط بالحكم الانفصالي في قره باغ وظلت تعتبر الإقليم أرضاً أذربيجانية مُحتلة، لكنها لم تمارس نفوذها لإنهاء هذه التجربة حتى عام 2020 عندما رفضت طلب أرمينيا مساعدتها في صد الهجوم الأذربيجاني على الإقليم وعندما فرض الدعم العسكري التركي لأذربيجان واقعاً جديداً في الصراع.
يبرز عاملين رئيسيين يُساعدان في تقييم مستقبل “الإدارة الذاتية”، وهما تأثير التحولات المرتبطة بسياسات القوى الكبرى (روسيا والولايات المتحدة) وتأثير التفاعلات بين القوى الأساسية المؤثرة في التجربتين (روسيا وتركيا وإيران). فيما يتعلق بالعامل الأول، فإن تدهور العلاقات الروسية الأرمينية منذ وصول نيكول باشنيان إلى السلطة في يريفان في 2018 إلى جانب الدعم التركي لأذربيجان في حرب قره باغ الثانية ثم تراجع تأثير موسكو في فنائها الخلفي بعد الحرب الروسية الأوكرانية، دفعت روسيا إلى تغيير مقاربتها لصراع قره باغ والتحول من استراتيجية تجميد الصراع إلى الانخراط في حلّه. في سوريا، لم تُبدي الولايات المتحدة أية إشارات على احتمال انسحابها والتخلي عن الوحدات، لكنّ وضعها في شرق الفرات يبدو مشابه لوضع روسيا في صراع قره باغ من حيث تراجع قدرتها على التأثير في ديناميكية الصراع، ومن حيث دور تركيا الذي يُقوض من قدرة واشنطن في الحفاظ على استقرار الإدارة الذاتية لفترة طويلة.
وبالنسبة للعامل الثاني المرتبط بالتفاعلات الروسية الإيرانية التركية، فإنها تبدو متناغمة بشكل أكبر في التعامل مع تجربة الإدارة الذاتية مقارنة بالتجربة الانفصالية الأرمنية في قره باغ. وتستند هذه التفاعلات على عنصرين، الأول التعاون التنافسي التركي الروسي الذي عمل بشكل فعال في إنهاء الحكم الانفصالي في قره باغ ولا يزال يعمل على مواءمة المصالح التركية والروسية في سوريا. والثاني التفاعلات التركية الروسية الإيرانية، التي لم تنجح بعد في خلق إطار تعاوني ثلاثي في جنوب القوقاز، لكنّها أكثر قدرة على تحقيق هذا التعاون في حالة الوحدات الكردية. وكما ساهم تحول موازين القوة لصالح أذربيجان منذ حرب قره باغ الثانية في 2020 في إحداث تحول تاريخي في مسار الصراع على قره باغ، فإن تمكن النظام السوري من تغيير المسار العسكري للصراع بفعل التدخلين الروسي والإيراني ثم التدخل العسكري التركي في عام 2016، وضعا بالفعل حدوداً للمدى الذي يُمكن أن يصله مشروع الحكم الذاتي الكردي.
إن الرهانات التي تضعها الوحدات الكردية على الانتخابات لتعزيز مشروع الحكم الذاتي عالية المخاطر وقد تؤدي لنتائج عكسية تُشكل تهديداً وجودياً لمشروع الحكم الذاتي خصوصاً في ظل مشروع التعاون بين أربع قوى إقليمية هي أنقرة وبغداد وطهران ودمشق لتضييق الخناق على حزب العمال الكردستاني وذراعه السوري.