انتخابات إسطنبول وأهميتها في السياسة العامة

قد تترك نتائج المنافسة على زعامة إسطنبول آثاراً كبيراً على السياسة التركية وعلى السياسة الحزبية داخل جبهة المعارضة. ومن المرجح أن تلعب هذه النتائج دوراً كبيراً في إعادة تصميم السياسة الداخلية بعد الحادي والثلاثين من مارس.

منذ أن فاز رجب طيب أردوغان برئاسة بلدية إسطنبول في عام 1994، أصبحت المدينة تحظى بأهمية كبيرة في السياسة الوطنية العامة. فمن جهة، كانت البوابة لدخول أردوغان إلى عالم السياسة كزعيم جديد أسس بعد سنوات قليلة حزب “العدالة والتنمية” الذي وصل إلى السلطة في عام 2002 ولا يزال يحكم تركيا إلى اليوم. ومن جهة أخرى، تحوّلت إسطنبول إلى نموذج مصغر للنهضة الاقتصادية الكبيرة التي شهدتها تركيا في ظل حكم أردوغان. علاوة على القيمة الرمزية الكبيرة التي تُمثّلها إسطنبول بالنسبة لزعامة أردوغان، فإن حقيقة أنها المدينة الأكبر في تركيا من حيث عدد السكان (تُشكل نحو 18% من إجمالي سكان البلاد)، فضلاً عن كونها العاصمة الاقتصادية، عززت أهميتها كقياس للقوة على مستوى السياسة الحزبية. لذلك، نُظر إلى خسارة الحزب الحاكم لرئاسة بلدية إسطنبول في عام 2019 فضلاً عن بلدية العاصمة أنقرة لصالح المعارضة على أنه بداية تحول في موازين القوى السياسية على المستوى الوطني. ومع أن هذا التحول لم يؤدي إلى إحداث تغيير سياسي في الانتخابات العامة التي جرت العام الماضي، إلآّ أنه شكل بالفعل بداية لحقبة جديدة في السياسة الداخلية بعيداً عن الهيمنة الكاملة للحزب الحاكم.

أدت انتخابات 2019 إلى ظهور حالة معارضة جديدة تشكلت في البداية بتحالف بين أكبر حزبين معارضين هما حزبا “الشعب الجمهوري” و”الجيد” القومي، قبل أن يتطور إلى تحالف “الأمة” الذي ضم أربعة أحزاب معارضة أخرى وخاض انتخابات العام الماضي جبهة موحدة بتعاون مع حزب “الشعوب الديمقراطية” الكردي على مستوى الانتخابات الرئاسية. وقد لعبت إسطنبول على وجه الخصوص دوراً بارزاً في بداية تشكيل العلاقة بين حزبي “الشعب الجمهوري” و”الشعوب الديمقراطية” الكردي. ومن النتائج الأخرى المهمة لانتخابات إسطنبول وقتها أنها أفرزت شخصية معارضة جديدة هي أكرم إمام أوغلو، الذي نُظر إليه بعد فوزه برئاسة البلدية على أنّه مشروع منافس قوي لأردوغان على رئاسة الدولة. مع ذلك، كانت هذه التقييمات مبالغ فيها لاعتبارات مختلفة أهمها أنها استندت على البُعد المعنوي لفقدان الحزب الحاكم لزعامة إسطنبول بقدر أكبر من الأبعاد الأكثر واقعية. فعلى الرغم من فوز المعارضة برئاسة البلدية في 2019، إلآّ أن الحزب الحاكم وحليفه “الحركة القومية” فازا بالعدد الأكبر من مقاطعات الولاية (25 مقاطعة من أصل 39). 

أما العامل الآخر فتمثل باصطدام طموح إمام أوغلو بمنافسة أردوغان في انتخابات 2023 بعقبتين أساسيتين، هما الطموح الشخصي لزعيم حزب “الشعب الجمهوري” السابق كمال قليجدار أوغلو ومخاطر الحظر السياسي التي واجهت إمام أوغلو. ومع أن تبني محتمل للمعارضة لترشح إمام أوغلو للرئاسة لم يكن من المتوقع أن يؤدي إلى نتائج مختلفة لتلك التي أفرزتها انتخابات مايو أيار الماضية بسبب هندسة التحالفات الحزبية داخل جبهة المعارضة وقتها، إلآّ أنه كان من الممكن أن يُشكل منافساً أكثر تهديداً لأردوغان. في الانتخابات الحالية، لم يعد للتقييمات المتعلقة بنتائج منافسة إسطنبول على المشهد السياسي العام أهمية على مستقبل السياسية العامة في المستقبل المنظور بالنظر إلى أردوغان استطاع بالفعل مدّ حكمه لخمس سنوات إضافية. لكنّ نتائج إسطنبول قد تترك آثاراً كبيراً على السياسة الداخلية وعلى السياسة الحزبية داخل جبهة المعارضة. وليس من المبالغة القول أن انتخابات إسطنبول ستلعب دوراً قوياً في إعادة تصميم السياسة الداخلية بعد الحادي والثلاثين من مارس آذار.

ولتقدير حجم وطبيعة هذه التأثيرات، ينبغي النظر إلى انتخابات إسطنبول من منظورين أساسيين، أوّلهما تداعياتها المحتملة على مستقبل الحالة السياسية لحالة أكرم إمام أوغلو، وثانيهما، تداعياتها المحتملة على مستقبل حزب “الشعب الجمهوري” المعارض. وفيما يتعلق بالمنظور الأول، فإن التداعيات التي يُمكن توقعها أكثر وضوحاً. ففي حال تمكن إمام أوغلو من الفوز مُجدداً برئاسة البلدية، فإنه سيُعزز تأثيره القوي داخل حزب “الشعب الجمهوري” كما سيُعزز تقديم نفسه على أن السياسي المعارض الذي لا يزال قادراً على الإطاحة بحكم حزب “العدالة والتنمية” في المستقبل وخصوصاً في الانتخابات الرئاسية بعد خمس سنوات. أما هزيمة محتملة له، فلن تؤدي فحسب إلى إعادة تغيير موازين القوى الحزبية في أكبر مدينة تركية من حيث عدد السكان، بل ستُشكل تهديداً وجودياً لحالة إمام أوغلو على مستوى حزبه وعلى مستوى السياسة العامة. انطلاقاً من ذلك، فإن انتخابات إسطنبول بالنسبة للحزب الحاكم ليست مُجرد معركة لاستعادة زعامة المدينة بقدر ما أنها معركة لإنهاء الهالة السياسية الكبيرة التي أحيطت بأكرم إمام أوغلو ولإرجاع حزب “الشعب الجمهوري” إلى مكانته السياسية التي كان عليها قبل انتخابات 2019.

وبالنسبة للمنظور الثاني المتعلق بمستقبل حزب “الشعب الجمهوري”، فإن معركة إسطنبول ستلعب دوراً مؤثراً في هذه العملية. مع الأخذ بعين الاعتبار الدور الذي لعبه أكرم إمام أوغلو في الإطاحة بكمال قليجدار أوغلو من زعامة الحزب بعد انتخابات مايو، فإن هزيمة محتملة لإمام أوغلو قد تؤدي إلى إفساح الطريق أمام قليجدار أوغلو لمحاولة العودة مُجدداً إلى زعامة الحزب بعد الانتخابات المحلية. هناك مجموعة من العوامل الحاسمة في تحديد نتائج المنافسة على رئاسة بلدية إسطنبول بين المرشحين البارزين أكرم إمام أوغلو ومراد قوروم عن حزب العدالة والتنمية ويُمكن تلخيصها بخمسة: خارطة التحالفات الحزبية، وتأثير الأحزاب الصغيرة في جبهتي السلطة والمعارضة على المنافسة، وتأثير الناخب الكردي في هذه المعركة، والاتجاهات التصويتية المحتملة لشريحة الناخبين المترددين الذين تُقدر نسبتهم بنحو 15%، فضلاً عن التأثير المحتمل للصراع داخل حزب “الشعب الجمهوري” على أداء إمام أوغلو. ويُمكن القول إن معظم هذه العوامل تخدم قوروم بقدر أكبر من إمام أوغلو. وكما أن ضعف المعارضة في انتخابات 2023 لعب الدور الأكثر أهمية في فوز أردوغان والتحالف الحاكم، فإنها انقساماتها والأزمات التي تشهدها أحزابها، قد يكون لها الدور الحاسم في تحديد نتائج المنافسة على رئاسة بلدية إسطنبول. 

إقرأ أيضاً: