في أول خطاب ألقاه منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر بين إسرائيل وحركة حماس، كشف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله عن استراتيجية الحزب في التعامل مع الحرب. وترتكز هذه الاستراتيجية على الموازنة بين الانخراط العسكري المحدود للحزب في الحرب عبر الجبهة الجنوبية اللبنانية كنوع من إظهار الدعم للمقاومة الفلسطينية في غزة وزيادة الضغط على إسرائيل، وبين تجنب أن يؤدي هذا لانخراط إلى انفجار حرب واسعة مع إسرائيل. ويُمكن القول إنه بعد أكثر من خمسة أشهر على اندلاع الحرب والهجمات المتبادلة المستمرة بين حزب الله وإسرائيل منذ تلك الفترة، حققت هذه الاستراتيجية أهدافها بشكل عام. فمن جانب، استطاع حزب الله إلى جانب الوكلاء الآخرين لإيران في المنطقة أن يجعلوا من زيادة مخاطر توسع رقعة الحرب أداة ضغط على إسرائيل والولايات المتحدة في الصراع عموماً، ومن جانب آخر، فإنه حتى في الوقت الذي تعمل فيه إسرائيل بشكل متزايد على توسيع نطاق هجماتها الجوية في الداخل اللبناني وترفع من وتيرة تهديداتها بشن هجوم واسع على لبنان، فإن مخاطر اندلاع حرب واسعة بين إسرائيل وحزب الله لا تزال لم تتجاوز بعد لعبة الضغط العسكري المتبادل وحرب الأعصاب بين الطرفين وإن تسلك مساراً تصاعدياً.
ولا ترجع أسباب عدم انفجار حرب واسعة بين إسرائيل وحزب الله فحسب إلى حقيقة أن الطرفين يسعيان لتجنبها بالنظر إلى آثارها الكبيرة على كليهما، بل أيضاً إلى عاملين آخرين لا يقلان أهمية ويتمثلان في إيران، التي لا تُريد أن يتطور التوتر بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب تُهدد بتدمير أقوى حلفائها في المنطقة، وكذلك بقلق الولايات المتحدة من أن تؤدي مثل هذه الحرب إلى صراع إقليمي يصعب احتواؤه بسهولة. مع ذلك، فإن مُجرد توفر العوامل التي تضغط باتجاه الحد من مخاطر حرب بين إسرائيل وحزب الله لا يعني بالضرورة أن هذه الحرب لن تقع. فالحسابات الخاطئة في الفعل وردة الفعل بين الطرفين يُمكن أن تؤدي في النهاية إلى إشعال الحرب على غرار حرب عام 2006. كما أن المُعضلة التي خلقها حزب الله لإسرائيل فيما يتعلق بنزوح سكان المناطق الشمالية في إسرائيل خوفاً من اندلاع حرب على الجبهة مع لبنان، تضغط بشكل كبير على الخيارات الإسرائيلية في التعاطي مع حالة حزب الله.
ترتكز استراتيجية حزب الله في إدارة الصراع الراهن على مجموعة من الحسابات الدقيقة والمعقدة. فمن جهة، يعتقد الحزب أن إسرائيل غير قادرة على خوض حرب مع لبنان لأربعة اعتبارات أساسية. أولها أن القدرات العسكرية الكبيرة التي يتمتع بها تجعل تكاليف مثل هذه الحرب باهظة للغاية على إسرائيل بحيث تفوق أية فوائد متصورة لها. وثانيها، إن إسرائيل غير قادرة عسكرياً على خوض حرب على جبهتين في غزة ولبنان في آن واحد. وثالثها أن حرباً مع لبنان ستؤدي إلى انخراط عسكري لوكلاء إيران في المنطقة أوسع نطاقاً من الانخراط الحالي لهم. ورابعاً، أن الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة على إسرائيل يعمل كضامن لمنع حصول الحرب. ومن جهة أخرى، يعتقد حزب الله أن شن إسرائيل حرباً واسعاً عليه سيقوض المساعي الإسرائيلية والأمريكية للتوصل إلى صفقة جديدة مع حركة حماس لاستعادة الأسرى الإسرائيليين، وقد تُمهد الأرضية لوقف دائم لإطلاق النار في غزة في المستقبل.
مع أن معظم هذه الحسابات تبدو واقعية في الوقت الحالي، إلآّ أنها تفقد واقعيتها مع مرور الوقت. على الرغم من أن إسرائيل تسعى من وراء تصعيد وتيرة هجماتها وتوسيع نطاقها في العمق اللبناني إلى الضغط على حزب الله للاستجابة للجهود الدبلوماسية التي تقودها دول غربية للتوصل إلى تسوية تُلبي مطالبها بخصوص انسحاب قوات حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، إلآّ أنها قادرة عسكرياً على توسيع هجماتها على لبنان بشكل أكبر من شكلها الحالي. إن حرباً إسرائيلية محتملة مع حزب الله ستكون مختلفة بشكل جذري عن الحرب التي تخوضها إسرائيل في غزة، حيث ستعتمد بشكل أساسي على الضربات الجوية ولا تستدعي الحاجة إلى القيام بغزو بري واسع للبنان. وبالتالي، فإن فكرة إسرائيل غير قادرة على شن حرب على جبهة ثانية تبدو غير واقعية تماماً من منظور عسكري. وبالنظر أن هدف إسرائيل الأساسي المتمثل في إبعاد قوات حزب الله على المناطق الحدودية لإعادة سكان مناطقها الشمالية إليها، فإنها تبدو جادة في استعدادها لتحمل التكاليف المترتبة على خوض حرب واسعة مع حزب الله من أجل تحقيق هذا الهدف.
علاوة على ذلك، فإن الضغط الذي تمارسه إدارة الرئيس جو بايدن على إسرائيل لمنع انفجار المواجهة مع حزب الله إلى حرب واسعة، والذي نجح حتى الآن في الضغط على خيارات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، تتراجع مع اقتراب الولايات المتحدة من الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في نوفمبر تشرين الثاني المقبل. وفي حال لم تنجح إدارة الرئيس جو بايدن في الدفع باتجاه إبرام صفقة جديدة بين إسرائيل وحماس وتهدئة المخاطر على الجبهة الإسرائيلية مع لبنان قبل دخول الولايات المتحدة في الأجواء الانتخابية في الأشهر القليلة المقبلة، فإن قدرة الدبلوماسية الأمريكية على التحرك في الصراع الدائر ستضعف بشكل أكبر. وفي حال لم تؤدي الوساطات الغربية إلى التوصل إلى تسوية للوضع على الجبهة الجنوبية اللبنانية قبل الانتخابات الأمريكية، فإن إسرائيل ستجد في هذا الوضع فرصة لتصعيد ضغوطها العسكرية على حزب الله بشكل يُخاطر بتفاقم الصراع إلى مستويات أكثر خطورة. لذلك، فإن عامل الوقت في الوتيرة الحالية للتصعيد العسكري الإسرائيلي ضد لبنان يخدم إسرائيل بقدر أكبر من حزب الله.
وفيما يتعلق بجبهة غزة وتأثيرها على ديناميكيات المواجهة الحالية بين إسرائيل وحزب الله، فإن الفرص المتزايدة للتوصل إلى تهدئة جديدة قد تُمهد الطريق لنهاية الحرب على غزة، تُساعد إسرائيل في تركيز جهدها العسكري بقدر أكبر على الصراع مع حزب الله. مع أن انفجار الجبهة الجنوبية اللبنانية كان نتيجة لحرب السابع من أكتوبر، إلآّ أن هذا الانفجار ساهم في خلق مُعضلة أكثر خطورة على إسرائيل بحيث أصبحت مساراً مستقلاً عن حرب السابع من أكتوبر. وفي ضوء ذلك، فإن رهان حزب الله على أن تؤدي تهدئة محتملة لحرب غزة إلى الحد من مخاطر شن إسرائيل حرباً على لبنان، غير مؤكد.
مع أن حسابات حزب الله فيما يتعلق بالاستجابة القوية من جانب وكلاء إيران في المنطقة في أي حرب إسرائيلية على لبنان تبدو مؤكدة، إلآّ أن حقيقة أن إيران تسير على حبل مشدود في حرب السابع من أكتوبر تُشير إلى أنها تسعى بكل السبل لتجنب أن يؤدي انخراط وكلائها في الحرب إلى تصعيد المخاطر عليها. وقد أظهرت زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني الأخيرة إلى العراق والطلب من الجماعات المسلحة العراقية التي تدعمها إيران بوقف هجماتها على القوات الأمريكية في سوريا والعراق بعد الرد الأمريكي الواسع على حادثة مقتل الجنود الأمريكيين الثلاثة في الأردن، أن طهران بدأت تستشعر بشكل متزايد هذه المخاطر عليها. وحقيقة أن انخراط وكلاء إيران في حرب السابع من أكتوبر لم يؤدي إلى ممارسة الضغط الذي كانت تتوقعه طهران على إسرائيل والولايات المتحدة لإنهاء الحرب تُشير أيضاً إلى أن مواصلة هذا الانخراط أو تصعيده بوتيرة أكبر في حال شن إسرائيل حرباً واسعة على حزب الله، قد لا يؤديان بالضرورة إلى إحداث الضغط الكافي على الحسابات الإسرائيلية فيما يتعلق بحالة حزب الله.
يضع حزب الله نفسه بشكل متزايد في مأزق التعامل مع المسارات التي تسلكها المواجهة الحالية مع إسرائيل. إن التغييرات الكبيرة التي فرضتها إسرائيل على قواعد الاشتباك مع حزب الله، والتي سرت منذ حربها الأخيرة على لبنان في عام 2006، تُظهر هذا المأزق بشكل واضح. وفي الوقت الذي تبدو فيه أن رهانات حزب الله في هذه المواجهة ترتكز على الحسابات الإسرائيلية، فإنه سيتعين عليه التفكير بقدر أكبر في حساباته الخاصة قبل أن تُصبح مخاطر حرب إسرائيلية جديدة على لبنان واقعاً. ولتجنب مثل هذا السيناريو، فإن أكبر الأخطاء التي يرتكبها حزب الله تتمثل في الرهان على أن إسرائيل غير قادرة على شن الحرب.