شنت الولايات المتحدة في الثاني من فبراير الجاري ضربات جوية على أهداف لجماعات مسلحة تدعمها إيران في سوريا والعراق رداً على الهجوم الذي استهدف القاعدة العسكرية الأمريكية في الأردن الشهر الماضي وأودى بحياة ثلاثة جنود أمريكيين. بينما يقول المسؤولون الأمريكيون إن حملة الانتقام ستتواصل وقد تستمر لفترة طويلة، إلآّ أنهم وضعوا خطوطاً حمراء لهذا الانتقام من دون أن تُضطر إيران إلى فعل ذلك. لقد أوضح الرئيس جو بايدن، الذي يسعى جاهداً لتجنب انخراط بلاده في حرب أخرى في الشرق الأوسط، أن الولايات المتحدة لا ترغب بتصعيد التوتر مع طهران. كما أن استبعاده بشكل حاسم خيارات شن ضربات داخل الأراضي الإيرانية يعكس هذه الرغبة. مع ذلك، فإن الخطوط الحمراء تُشعر الإيرانيين بمزيد من الثقة بأنفسهم وبأنهم في مأمن من دفع تكاليف باهظة. إن الحقيقة الواضحة التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في خضم هذا التصعيد المتزايد في صراع الوكالة بين إيران والولايات المتحدة في الشرق الأوسط أن الإدارة الأمريكية تواجه مأزقاً متزايداً في التعامل مع الشرق الأوسط ما بعد حقبة حرب السابع من أكتوبر.
وهذا المأزق يظهر على ثلاثة مسارات: الأول يتمثل في المعضلة الكبيرة التي تواجه واشنطن في إقناع حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالقبول بالتصورات الأمريكية بشأن اليوم التالي لنهاية الحرب على غزة وانخراط إسرائيل في عملية سلام مع الفلسطينيين على أساس حل الدولتين. والثاني يتمثل في صعوبة الموازنة بين إظهار الردع العسكري القوي ضد إيران ووكلائها في المنطقة وبين تجنب أن يؤدي إظهار الردع إلى تأجيج الاضطراب الإقليمي وبالتالي مزيد من التورط العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط. أما الثالث، فيظهر في تراجع ثقة حلفاء واشنطن في المنطقة بقدرتها على احتواء اضطرابات الشرق الأوسط من خلال استخدام القوة العسكرية ضد وكلاء إيران. لذا، لا يبدو مفاجئاً أن تكون البحرين فقط هي الدولة العربية الوحيدة التي انخرطت في التحالف الذي أعلنته الولايات المتحدة لحماية الملاحة في البحر الأحمر. أمام هذه المسارات الثلاثة، فإن الولايات المتحدة تجد نفسها متورطة في أزمة كبيرة في الشرق الأوسط.
من المفارقات المثيرة للاهتمام أنه بينما تسعى إدارة بايدن لمنع انتشار حرب غزة بشكل أعمق في الشرق الأوسط، فإنها تعتمد بشكل متزايد على القوة العسكرية لتحقيق هذا الهدف. لا تزال الولايات المتحدة تشن منذ أسابيع ضربات جوية على جماعة الحوثي في اليمن من دون أن تنجح في وقف هجمات الأخيرة في البحر الأحمر. كما أن واشنطن تُخاطر اليوم في التورط بشكل أكبر في صراع الوكالة مع إيران في سوريا والعراق. إن فكرة أن الهجمات التي يقوم بها وكلاء إيران في المنطقة منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر مُصممة لإظهار الدعم للفلسطينيين فحسب تبدو محل شك. على الرغم من أن الحوثيون يقولون إن هجماتهم مُصممة لإجبار إسرائيل على إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، إلآّ أن النتيجة التي حققوها من وراء هجماتهم على البحر الأحمر هي جر الولايات المتحدة إلى الانخراط عسكرياً في هذا الاضطراب الشرق أوسطي الكبير. وفي سوريا والعراق، فإن الجماعات المدعومة من طهران تتعامل مع هذا الاضطراب على أنه فرصة حاسمة لممارسة مزيد من الضغط العسكري على الوجود الأمريكي في البلدين وتقليص خيارات واشنطن للاحتفاظ بهذا الوجود لفترة طويلة إضافية. يُمكن استثناء الجبهة المشتعلة بين إسرائيل وحزب الله اللبناني من هذا السياق على اعتبار أن حزب الله يسعى جاهداً لتجنب خوض حرب واسعة مع إسرائيل في الوقت الحالي. مع ذلك، فإن مخاطر حدوث هذه الحرب تزداد مع مرور الوقت.
وعلى عكس إيران، التي تسعى منذ اندلاع حرب السابع من أكتوبر لاستعراض قوتها الإقليمية وترى في الاضطراب الإقليمي الناجم عن الحرب فرصة لممارسة هذا الاستعراض، فإن الولايات المتحدة تواجه استنزافاً متزايداً في قدرتها الدبلوماسية على صعيد احتواء الصراع وعلى صعيد وجودها العسكري في سوريا والعراق وأيضاً في البحر الأحمر. بمعزل عن حجم الانتقام الأمريكي من الهجوم على القاعدة الأمريكية في الأردن، فإن فترة الأسبوع التي استغرقتها الولايات المتحدة لبدء حملة الانتقام كانت كافية للإيرانيين للاستعداد لوجستيا ونفسيا لهذا الانتقام. وحتى لو كانت حملة انتقام طويلة الأمد تحتاج أسبوعاً لوضع الخطط العسكرية، فإن حقيقة أن واشنطن تسعى لانتقام لا يؤدي إلى خروج صراع الوكالة مع إيران عن السيطرة، تعكس في جانب هامش التسامح الذي يُحافظ عليه بايدن مع الإيرانيين وفي جانب آخر، المُعضلة التي تواجه الولايات المتحدة في الموازنة بين هدف إظهار الردع القوي وبين تجنب تعميق تورطها العسكري في ارتدادات حرب السابع من أكتوبر. في أفضل الأحوال لبايدن، فإن هذا الانتقام قد يجعل إيران أكثر حذراً في تصعيد هجمات وكلائها ضد المصالح الأمريكية (وهذا غير مضمون)، لكنّه لن يؤدي بأي حال إلى خلق وضع مختلف في صراع الوكالة الأمريكي الإيراني أو إلى تغيير جذري في استراتيجية إيران الإقليمية.
في الواقع، يبدو الرئيس بايدن في وضع لا يُحسد عليه. ومن المؤكد أن الهاجس من التورط في صراع عسكري أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط ليس وحده من يضغط على خياراته في التعامل مع هذه الفوضى الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. يُمكن النظر إلى العامل الداخلي المتمثل بالانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ستُجرى في نوفمبر تشرين الثاني المقبل على أنه يضغط بشدة على سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط في الوقت الراهن. إن مُجرد إظهار الإدارة الأمريكية رغبة في تجنب تأجيج الاضطرابات الإقليمية لم تعد كافية وحدها لتحقيق هذا الهدف. وبالطبع لا يُمكن تصور أن هذه الاضطرابات ستختفي فجأة بمُجرد انتهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. سيتعين على واشنطن أن تُحدد بوضوح استراتيجيتها للتعامل مع الضغط المتزايد الذي تُمارسه إيران عليها عبر وكلائها لإخراجها من سوريا والعراق. وحتى لو نجحت القوة العسكرية في دفع وكلاء إيران في سوريا والعراق إلى الأخذ بعين الاعتبار التكاليف الباهظة لمواجهة هجماتهم على القوات الأمريكية في المستقبل، فإن ذلك لن يعني بأي حال أن استراتيجية إيران الرامية إلى تقويض الخيارات الأمريكية في البلدين ستتغير. إن المأزق الذي تواجهه الولايات المتحدة في الشرق الأوسط اليوم هو من صنع نفسها ليس لأنها تجنبت منذ سنوات إظهار هذه القوة بشكل حاسم لردع إيران، بل لأنها فقدت بشكل متزايد القدرة في التأثير على ديناميكيات الشرق الأوسط منذ مطلع العقد الماضي.
إن الشيء الوحيد الذي يُمكن أن يُخفف من القلق من انجراف الشرق الأوسط إلى صراع كبير هو أن الولايات المتحدة وإيران لا تُريدان التورط بشكل أكبر في هذا الاضطراب. مع ذلك، فإن علامات الضعف الواضحة في الاستراتيجية الأمريكية الراهنة في الشرق الأوسط، لا تعمل فحسب كمحفز إضافي لطهران على مواصلة استعراض قوتها الإقليمية، بل تُهدد بجعل مستقبل المنطقة رهينة لصراع الوكالة الإيراني الأمريكي الذي لن ينتهي. إن أفضل خطوة يُمكن أن تقوم بها الولايات المتحدة للحد من مخاطر الاضطراب الإقليمي هو ممارسة مزيد من الضغط باتجاه إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. مع ذلك، لا ينبغي الاعتقاد بأن الآثار الإقليمية الناجمة عن الحرب ستختفي بسرعة.