أي دور لتركيا مستقبلي لتركيا في الصراع  الفلسطيني الإسرائيلي؟

مع أن أردوغان بدا أنه يتخلى تدريجيا عن الخطاب الدبلوماسي الذي انتهجه في بداية الحرب إلآّ أن الهدف النهائي له هو تعزيز دور تركيا في مساعي إنهاء الصراع وضمان دور مؤثر لها في مستقبل غزة والانخراط بقوة في إعادة تنشيط عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

إن الحكمة التي بدأت تترسخ في السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة أن الأزمات المحيطة في الجوار يُمكن أن تولد الفرص بقدر مماثل للتحديات. لقد أظهرت هذه الحكمة فعاليتها على نحو خاص في الحرب الروسية على أوكرانيا. بينما كان يُنظر إلى هذه الحرب في البداية على أنها ستؤدي إلى وضع تركيا في موقف حرج للغاية في علاقاتها مع روسيا والغرب، فإن الرئيس رجب طيب أردوغان حوّلها إلى فرصة لتأكيد سلطة تركيا على مضائق البحر الأسود في زمن الحرب ولاستعراض مكانتها في السياسات الدولية ولزيادة قيمتها الجيوسياسية لموسكو والغربيين من دون أن يؤدي ذلك إلى تهديد العلاقات مع كليهما. هذا ما بات يُطلق عليه نهج التوازن التركي. يُمكن النظر أيضاً إلى سياسة تركيا في الصراع السوري خصوصاً بعد النصف الثاني من العقد الماضي من منظور الأزمات التي تُولد الفرص. علاوة على المساحة التي أوجدتها تركيا لنفسها للتدخل العسكري في الحرب من أجل الحد من ارتداداتها المباشرة عليها وللعب دور أكثر نشاطاً في تدمير المشروع الانفصالي الكردي، فإنها بفضل براغماتيتها، تحولت بعد اثني عشر عاماً من الحرب إلى طرف لا غنى عنه بالنسبة لدمشق وموسكو وطهران لإرساء حالة من الاستقرار في الستاتيكو العسكري للصراع والتعاون وحجر زاوية في الضغط على الولايات المتحدة للانسحاب من سوريا. ومن المتصور أنه سيكون لتركيا دور محوري في إعادة إعمار سوريا بعد الحرب.

أطرح الآن حكمة “الأزمات التي تُولد الفرص” لتقدير مدى قدرة تركيا في تحويل الحرب الدائرة بين إسرائيل وحركة حماس إلى فرصة للتحول إلى فاعل إقليمي قوي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي واستعراض مكانتها الجديدة في الشرق الأوسط كقوة أساسية في الجغرافيا السياسية الإقليمية. ظاهرياً، تُقلص الاندفاعة التركية القوية في إدانة إسرائيل على جرائم الحرب التي ترتكبها في قطاع غزة ودعمها لحركة حماس بوصفها حركة تحرر وطني، من قدرة الدبلوماسية التركية على فعل ما تقوم به في الصراع الروسي الأوكراني أو في الصراع السوري. مع ذلك، فإن أنقرة تُحاول الحفاظ على مساحة للعب دور أكبر في الصراع. على عكس فترة العقد الماضي من الاضطرابات الكبيرة بين تركيا وإسرائيل، والتي أدّت إلى انهيار العلاقات الدبلوماسية لمرّتين قبل أن يُعاد إصلاحها مؤخراً، فإن أنقرة تجنت حتى الآن في هذه الحرب تصعيد ردها على إسرائيل إلى تخفيض العلاقات الدبلوماسية معها. علاوة على ذلك، أجرى أردوغان في بداية الحرب محادثة هاتفية وحيدة مع نظيره الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ. وبالتوازي مع ذلك، قررت أنقرة الانخراط بشكل عميق في الجهود الإقليمية لتهدئة حدة الحرب. 

تعكس هذه الاستراتيجية التي تسير على حبل مشدود في الصراع رغبة أنقرة في الانضمام إلى نادي الدول الإقليمية المؤثرة في ديناميكية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي رغم أنها لا تزال تفتقر إلى الإمكانات التي تمتلك تلك الدول للعب هذا الدور. على عكس إيران، التي لديها روابط عميقة مع حركة حماس وتدعمها مالياً وعسكرياً وحتى عبر انخراط محدود حتى الآن لوكلائها في المنطقة مثل حزب الله في لبنان والجماعات التي تُديرها في سوريا والعراق والحوثيين في اليمن في هذه الحرب، فإن دعم تركيا لحماس يقتصر على الموقف السياسي وبدرجة أقل احتضان بعض قادة الحركة. كما أنه على عكس مصر، التي لديها حضور قوي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بحكم التاريخ والجغرافيا، أو بعض دول الخليج العربي مثل قطر التي ترعى بشكل قوي حركة حماس، أو الإمارات التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل أو السعودية التي ترغب في الانضمام إلى اتفاقيات السلام مع تل أبيب، فإن تأثير تركيا في الصراع يبقى محدوداً مقارنة بهذه الدول. مع ذلك، تمتلك أنقرة ثلاث مميزات رئيسية تُساعدها في تعزيز حضورها في الصراع، تتمثل أولاً في دعمها السياسي القوي للفلسطينيين ولحركة حماس، وثانياً في علاقاتها الطويلة مع إسرائيل رغم كونها غير مستقرة، وثالثاً في علاقاتها الجيدة حالياً مع معظم القوى الفاعلة في المنطقة من مصر إلى دول الخليج وصولاً إلى إيران.

تاريخياً، لم يكن بوسع تركيا لعب دور قوي في القضية الفلسطينية لاعتبارات عديدة. في العقد الماضي على سبيل المثال، أدت الأزمة مع مصر بعد إطاحة الجيش بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي المنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين إلى انهيار العلاقات التركية المصرية لنحو عقد من الزمن، ما قوض من قدرة تركيا على التعاون مع قوة إقليمية مؤثرة في القضية الفلسطينية. كما أدى دعمها للربيع العربي وعلاقتها بجماعة الإخوان المسلمين إلى تأزيم علاقتها مع الدول الرئيسية في منطقة الخليج مثل السعودية والإمارات. علاوة على ذلك، قوضت التوترات الكبيرة بين أنقرة وتل أبيب منذ مطلع العقد الماضي من قدرة أنقرة على لعب دور صانع السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. مع ذلك، استطاع أردوغان منذ الانعطافة الإقليمية التي بدأها بعد عام 2020 في إعادة إصلاح العلاقات مع جميع هذه الأطراف. وفي دبلوماسية الحرب الحالية، تسعى تركيا لتوظيف هذه العلاقات من أجل لعب دور نشط في تهدئة حدة الصراع وتقديم مقترح الدول الضامنة بهدف إيجاد تسوية نهائية وشاملة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي. على مدى الأسابيع الماضية، تجول وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بين القاهرة وجدة وبيروت وطهران ضمن استراتيجية تركيا الهادفة إلى إيجاد إطار إقليمي متماسك للضغط باتجاه إنهاء الحرب. 

مع أن أردوغان بدا أنه يتخلى تدريجياً عن الخطاب الدبلوماسي الذي انتهجه في بداية الحرب تجاه إسرائيل، إلآّ أن الهدف النهائي له كما يبدو من الحذر التركي في تجنب انهيار جديد في العلاقات الدبلوماسية مع تل أبيب ومن اعتبار حركة حماس حركة تحرر وطني، هو تعزيز دور تركيا في المساعي الإقليمية والدولية لإنهاء الحرب وفي مساعي إعادة تنشيط عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والأهم ضمان دور مؤثر لها في تسوية ما بعد الحرب بشأن غزة من خلال المشاركة في الترتيبات الأمنية المستقبلية المحتملة في غزة وإعادة الإعمار. على غرار مصر، التي تنظر إلى الحرب الراهنة على أنها فرصة لاستعادة دورها التاريخي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وعلى غرار دول الخليج، التي من المتصور أن يكون لها دور كبير في إعادة إعمار غزة بعد الحرب ورعاية عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فإن أردوغان ينظر إلى هذه الحرب على أنها فرصة لتعظيم مكانة ودور تركيا في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. إن قدرة أنقرة على لعب مثل هذا الدور تعتمد على ما إذا كان تصعيد الموقف السياسي تجاه إسرائيل ودعم حركة حماس لن يؤدي في نهاية المطاف إلى انهيار العلاقات الدبلوماسية الجديدة مع تل أبيب. حتى اليوم، بدا أن تركيا تُظهر انضباطاً أكبر في إدارة التوترات مع إسرائيل. ومن الواضح أن الرغبة في إعادة تنشيط عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد الحرب ستظل محور الاستراتيجية والدبلوماسية التركية في الصراع.

إقرأ أيضاً: