ماذا تعني حرب أكتوبر الجديدة للشرق الأوسط؟

تصل أصداء المواجهة الكبيرة التي تخوضها إسرائيل وحماس منذ السابع من أكتوبر الجاري إلى كل بقعة جغرافية من المنطقة كما أربكت السياسات الدولية. لقد دخل الشرق الأوسط بالفعل في أكبر تحول تاريخي منذ عقود ومن المرجح أن تكون تداعيات الحرب الجديدة كبيرة على الجغرافيا السياسية الإقليمية.

تصل أصداء المواجهة الكبيرة التي تخوضها إسرائيل وحماس منذ السابع من أكتوبر الجاري إلى كل بقعة جغرافية من منطقة الشرق الأوسط. كما أربكت السياسات الدولية. تاريخياً، كان للصراع الفلسطيني الإسرائيلي تأثير قوي على ديناميكيات الشرق الأوسط. ومع أن هذا التأثير تراجع بعد دخول الصراع مرحلة من الجمود النسبي والمراوحة منذ إبرام اتفاقية أوسلو بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، إلاّ أنّه استعاد قوته في نهايات العقد الماضي مع مجيء إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب واعترافه بالقدس عاصمة إسرائيل وطرح رؤية “صفقة القرن” التي بدأ تنفيذها بإبرام اتفاقيات سلام بين إسرائيل وكل من الإمارات والبحرين ثم انضمام المغرب والسودان إليها لاحقاً. كما نجحت واشنطن جزئياً في تقريب لبنان خطوة من الإطار الإقليمي الذي تعمل عليه من خلال رعاية اتفاق لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. حتى ما قبل الهجوم الكبير الذي شنته حركة حماس على إسرائيل هذا الشهر، كان إدارة الرئيس جو بايدن منخرطة بقوة في مفاوضات بين إسرائيل والسعودية لإبرام اتفاق سلام. كان الهدف من مشروع السلام السعودي الإسرائيلي إحداث أكبر تغيير في الجغرافيا السياسية الإقليمية منذ عقود طويلة. 

لذلك، لا يبدو مستغرباً النظر إلى حرب اكتوبر الجديدة على أنها عقدت على نحو كبير من المساعي الأمريكية لإحداث هذا التحول. لا يمكن اعتبار أن فرص إبرام اتفاقية سلام بين الرياض وتل أبيب انتهت تماماً بفعل الحرب، لكنّها أصبحت مرهونة بالشكل الذي ستأخذه الحرب في الفترة المقبلة والنتائج التي ستُفرزها. إذا استطاعت إسرائيل تحقيق هدفها في إنهاء حركة حماس والفصائل الفلسطينية المسلحة الأخرى في غزة (وهذا غير مرجح) دون المخاطرة بتوسيع رقعة المواجهة إلى حرب مُتعددة الأطراف ينخرط فيها حلفاء إيران في المنطقة مثل حزب الله في لبنان، فإن ذلك سيُساعد على الأرجح واشنطن في الإبقاء على فرص إبرام اتفاق سلام بين السعودية وإسرائيل. مع ذلك، فإن الديناميكية التي تسلكها الحرب الراهنة، والتي لا تبدو مُقيّدة بقواعد صارمة تحول دون توسع رقعتها، قد تؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية الإقليمية. وهذا الاحتمال مرهون بشكل أساسي بفشل إسرائيل في إنهاء وجود المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة وتعرّضها لهزيمة استراتيجية. وحتى لو لم تؤدي الحرب الجديدة (سواء بقيت في إطارها الفلسطيني الإسرائيلي أو توسعت إلى إطار إقليمي) إلى هزيمة إسرائيلية واضحة، فإنها ستُعزز ميزان القوى الجديد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وسياقه الإقليمي أيضاً. 

من الملاحظ أن عودة المملكة العربية السعودية للتركيز في خطابها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، تعكس بشكل واضح، رغبتها في تبني استراتيجية حذرة بانتظار ما ستؤول إليه المواجهة الحالية. الدول العربية الأخرى التي أقامت اتفاقية سلام مع إسرائيل مؤخراً مثل دولة الإمارات العربية المتحدة، تتبنى نهجاً حذراً للغاية أيضاً، وبقيت تحافظ بقوة على الحاجة إلى سلام عادل وشامل بين الفلسطينيين والإسرائيليين كسبيل لإنهاء هذا الصراع. علاوة على ذلك، فإن الحرب الجديدة، وبقدر ما تخلق تحديات إضافية على مصر، فإنها تُتيح لها استعادة دورها الإقليمي المركزي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعدما تراجع في السنوات الأخيرة. مع أن معظم الدول العربية سئمت من استمرار هذا الصراع لفترة أطول وتسعى للقيام بمبادرات من شأنها إعادة تحريك مساعي السلام، إلآّ أنها تنظر الآن إلى هذه المواجهة على أنها قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تشجيع مقاربتها وتعزيز فرص التسوية الكبرى. للوصول إلى مثل هذه النتيجة المثالية، فإن الأمر مرهون بأن تفرز الحرب معادلة جديدة ودقيقة تفشل فيها إسرائيل في استعادة عامل الردع القوي بشكل كامل، وتعجز فيها إيران من الاستفادة من الحرب من أجل تشكيل واقعي إقليمي جديد يقوض من تأثير الدول العربية على مسار الصراع.

من المرجح أن تكون الولايات المتحدة تطمح أيضاً إلى نتيجة مشابهة جزئياً مع حرصها على أن تتمكن إسرائيل من استعادة قدر أكبر من مفهوم الردع لتعزيز موقفها في أي تسوية كبرى. مع أن واشنطن أرسلت حاملة طائراتها إلى شرق البحر المتوسط لإظهار الدعم المطلق لإسرائيل وتقويض قدرة إيران وحلفائها في المنطقة على الانخراط في هذه الحرب، إلآّ أن أولوياتها الاستراتيجية في الشرق الأوسط ستبقى تتركز على دفع أكبر عدد ممكن من الدول العربية إلى الانخراط في اتفاقات سلام مع إسرائيل بالتوازي مع الضغط على تل أبيب للتفاوض على سلام شامل مع الفلسطينيين. إن هذا السلام هو الوحيد الذي يُساعد الولايات المتحدة في مواصلة تخفيف حضورها العسكري في الشرق الأوسط والتركيز على جبهات أخرى أكثر أهمية لها مثل الصراع مع روسيا في أوروبا والتنافس مع الصين في آسيا. مع ذلك، فإنه في مثل هذه الاضطرابات التي يُمكن أن تخرج عن السيطرة وتتحول إلى صراع إقليمي كبير، فإن قدرة واشنطن وحلفائها الإقليميين على صياغة استراتيجية فعالة ومتماسكة لتحويل الحرب الحالية إلى فرصة لصناعة التسوية الكبرى، تبقى محفوفة بالمخاطر على نحو كبير.

لا تزال إيران حذرة في توجيه حلفائها في المنطقة على الانخراط في هذه الحرب. كما أن حزب الله، الذي يُمثل القوة الضاربة لإيران في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، يواجه تحديات داخلية كبيرة تزيد من المخاطر عليه في حال انخراطه في الحرب. لكن حقيقة أن المواجهة الحالية بين حماس وإسرائيل يُنظر إليها في إيران على أنها مصيرية لمستقبل الدور الإيراني في المنطقة، تُشير إلى أن طهران لن تتردد في دفع حلفائها إلى الانخراط في الحرب إذا ما شعرت أن إسرائيل ستنجح في استراتيجيتها الجديدة بتدمير الفصائل الفلسطينية في غزة واستعادة مفهوم الردع إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر. لقد دخل الشرق الأوسط بالفعل في أكبر تحول تاريخي منذ عقود ومن المرجح أن تكون تداعيات الحرب الجديدة كبيرة على الجغرافيا السياسية الإقليمية.

إقرأ أيضاً: