لا يزال مستقبل اتفاقية ممر تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود غامضاً قبيل يوم واحد فقط من انتهاء أجل الاتفاقية التي تم تمديدها للمرة الأولى قبل أربعة أشهر. قالت موسكو إنها تدعم تمديداً ثانياً للاتفاقية لشهرين فقط على عكس التمديد الأول الذي كان لأربعة أشهر وهي فترة الاتفاقية الأصلية التي تم إبرامها برعاية تركيا والأمم المتحدة قبل ثمانية أشهر. الهدف من الاتفاقية هو تعزيز الشحن الآمن لتصدير الحبوب والمنتجات الغذائية ذات الصلة والأسمدة من ثلاثة موانئ أوكرانية – أوديسا وتشورنومورسك ويوجني. كجزء من المبادرة، تقدم جميع أطراف الاتفاقية ضمانات أمنية لمرور السفن. تمر السفن من الموانئ الأوكرانية وتدخلها بعد التفتيش من قبل مركز تفتيش في إسطنبول يضم ممثلين عن الدول الثلاث والأمم المتحدة.
كما تخضع السفن للمراقبة الفنية طوال مسار مرورها بالكامل. للسيطرة على الامتثال لشروط الصفقة، تم إنشاء مركز تنسيق مشترك. بالتوازي مع هذه الاتفاقية، وقعت روسيا والأمم المتحدة في نفس اليوم الذي أبرمت فيه مذكرة تفاهم لتسهيل صادرات موسكو من المنتجات الغذائية والأسمدة لمدة ثلاث سنوات. وتنص المذكرة على أن المنظمة الدولية ستساعد في إزالة العقبات في مجالات التمويل والتأمين واللوجستيات في تصدير الأغذية والأسمدة الروسية، بينما تتعهد موسكو بتسهيل تصدير المواد الغذائية والأسمدة دون عوائق من الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود.
عشية نهاية الفترة الثانية من “صفقة الحبوب”، لم تعد الأسئلة محصورة بالطبيعية السياسية للاتفاقية فحسب، بل تتعلق أيضاً بالفوائد الاقتصادية لها. وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، تم تصدير المنتجات الغذائية التالية من ثلاثة موانئ في أوكرانيا (أوديسا ، تشورنومورسك ، يوجني): القمح والذرة والشعير وبذور اللفت وفول الصويا والبازلاء وبذور عباد الشمس وزيت عباد الشمس. لتحليل فعالية “صفقة الحبوب”، من المهم تقييم عدد السلع والبلدان التي تم تصديرها من أوكرانيا. في الفترة الممتدة من 1 أغسطس 2022 (مرور السفن الأولى على طول “ممر الحبوب”) حتى 14 مارس 2023، تم شحن 24.4 مليون طن من المنتجات الغذائية من ثلاثة موانئ أوكرانية. وكان المستفيدون الرئيسيون هم ثلاث دول – الصين وإسبانيا وتركيا، والتي تلقت أكثر من نصف الحجم الإجمالي للبضائع المرسلة من أوكرانيا بموجب “صفقة الحبوب”.
بشكل عام، في الفترة من 1 أغسطس 2022 إلى 10 مارس 2023، استلمت البلدان المتقدمة 40٪ من حجم البضائع المشحونة بموجب مبادرة حبوب البحر الأسود، و 60٪ ذهبت إلى البلدان النامية، بما في ذلك 35٪ من البضائع المصدرة إلى الصين وتركيا. وهذا يعني أن جميع البلدان النامية الأخرى تلقت 25٪ فقط من السلع، بينما تلقت أقل البلدان نمواً والبلدان ذات الدخل المنخفض التي تعاني من نقص الغذاء حسب تصنيف منظمة الأغذية والزراعة 11٪ من السلع. البلدان التي تواجه حاليًا تهديدًا بالمجاعة، كإثيوبيا واليمن والسودان وأفغانستان ولبنان وكينيا والصومال، حصلت على أقل من 5٪ من إجمالي الصادرات بموجب الصفقة.
ساعدت صفقة الحبوب إجمالاً في الحد من التضخم العالمي الحاد وساهمت في استقرار أسعار الغذاء العالمية. بدأ مؤشر أسعار الغذاء العالمي، الذي بلغ ذروته في أبريل – مايو 2022 في الانخفاض من يونيو 2022 وبلغ 135.4 نقطة في ديسمبر 2022. وفي فبراير 2023 انخفضت قيمة المؤشر (وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة) بالفعل إلى 129.8 نقطة. يمكن قول الشيء نفسه عن ديناميكيات الأسعار العالمية للقمح والذرة وزيت عباد الشمس – عادت جميع أسعار المنتجات الغذائية المصدرة من أوكرانيا بموجب “صفقة الحبوب” بعد ذروة ربيع 2022 إلى يناير 2022. على سبيل المثال، انخفضت أسعار القمح التي وصلت في مايو 2022 إلى 522.3 دولار للطن في ديسمبر 2022 إلى 386.3 دولار للطن، وانخفضت أسعار زيت عباد الشمس التي قفزت في أبريل إلى 2.3 ألف دولار للطن في ديسمبر إلى 1.2 ألف دولار للطن، مما قد يشير بالطبع إلى التأثير الإيجابي لمبادرة حبوب البحر الأسود.
كان لـ “صفقة الحبوب” تأثير مفيد على صورة روسيا وخاصة في إفريقيا. مع ذلك، واجه مصدرو الحبوب والأسمدة الروس منذ إبرام الاتفاقية عقبات كثيرة وبخاصة في مجال الخدمات اللوجستية (تأجير السفن، والتأمين على البضائع، وحظر دخول الموانئ الأجنبية، ومشاكل الدفع). لكن على الرغم من الصعوبات، كانت صادرات الحبوب الروسية في عام 2022 أعلى بنسبة 3٪ مما كانت عليه في عام 2021. وأصبحت 126 دولة مشترًا للحبوب الروسية في عام 2022. ذهبت 39٪ من صادرات الحبوب الروسية إلى الشرق الأوسط، و31٪ إلى الدول الآسيوية، و20٪ إلى الدول الأفريقية، بينما ذهبت 7% فقط إلى دول الاتحاد الأوروبي.
في عام 2022، تغيرت جغرافية إمدادات الحبوب الروسية. زادت صادرات الحبوب إلى الصين بشكل ملحوظ. الجزائر، التي اشترت في السابق كمية صغيرة فقط من القمح الروسي (كانت الإمدادات الرئيسية من دول الاتحاد الأوروبي)، تحولت أيضاً إلى الحبوب الروسية. على الرغم من أن “صفقة الحبوب” أفسحت المجال أمام توريد المنتجات الغذائية الأوكرانية إلى السوق العالمية وكان لها إلى حد ما تأثير إيجابي على صادرات الحبوب من الاتحاد الروسي، فإن هذه المبادرة، بالطبع، لم تستطع حل مشكلة أزمة الغذاء العالمية. على سبيل المثال، قامت أوكرانيا صدرت بموجب الصفقة كمية أكبر من الأعلاف وزيت عباد الشمس، والذي يكثر الطلب عليه في أوروبا والصين وتركيا، بينما صدّرت بدرجة أقل القمح وهو سلعة حيوية في البلدان الفقيرة التي تعاني من نقص الغذاء.
مع ذلك، فإن المعضلة التي واجهت صفقة الحبوب تتمثل بشكل رئيسي في أن الأمم المتحدة لم تلتزم بالمذكرة الثانية التي أبرمتها مع روسيا لتسهيل تصدير الأغذية والأسمدة الروسية إلى الأسواق العالمية. فرضت الدول الغربية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا أعقوبات صارمة على روسيا. وبينما لا تخضع صادراتها من المواد الغذائية والأسمدة للعقوبات، تقول موسكو إن القيود المفروضة على المدفوعات والخدمات اللوجستية وقطاعات التأمين تشكل “عائقا” أمام م ثل هذه الشحنات. وتقول الأمم المتحدة إنها أحرزت تقدماً ملموساً بهذا الخصوص، لكنّه لا يزال هناك بعض العقبات لا سيما فيما يتعلق بأنظمة الدفع. يُعتقد الآن أن روسيا تسعى لتخفيف أنظمة العقوبات الغربية عليها مقابل تمديد الصفقة لأجل طويل. حتى الآن، فإن الأثر الإيجابي لتخفيف القيود المفروضة على شراء الأسمدة الروسية يبرز على دول الاتحاد الأوروبي بشكل أساسي. لذلك، تبحث روسيا عن طرق لتزويد أفقر البلدان الأفريقية بالأسمدة المحجوبة في موانئ الاتحاد الأوروبي مجانًا، لكن حتى هذا يتطلب مفاوضات معقدة مع الأمم المتحدة.