كانت الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى مصر منتصف فبراير الجاري أوضح صورة على التحول الكبير الذي بدأت تركيا بإحداثه على علاقاتها مع العالم العربي منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات، والذي يعكس بدوره كيف أن أنقرة أصبحت أكثر فهماً للعالم العربي بعد عقد من الاضطرابات الحادة التي عصفت بعلاقاتها مع القوى النافذة في المنطقة. قبل اندلاع أحداث “الربيع العربي” في عام 2011 كانت تركيا تتمتع بعلاقات جيدة مع المنطقة العربية. ولا يرجع ذلك فحسب إلى نهج “صفر مشاكل” الذي كانت تتبناه في علاقاتها مع محيطها العربي حتى تلك الفترة، بل أيضاً إلى حقيقة أن دورها في المنطقة العربية لم يكن قط بهذا القدر من التأثير على غرار ما أصبح عليه الوضع بعد 2011. فقد انخرطت أنقرة منذ تلك الفترة في دعم المعارضة السورية بالسلاح من أجل الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد، قبل أن يُصبح لها وجود عسكري واسع في شمال سوريا بعد عام 2016. كما رحّبت بحرارة بوصول جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر، حيث كانت تتطلع إلى تشكيل محور استراتيجي مع القاهرة كبوابة إلى العالم العربي. لكنّ طموحاتها سُرعان ما تبددت بعد إطاحة الجيش المصري بالرئيس الإسلامي محمد مرسي بعد أقل من عام على فوزه بالرئاسة، وهو ما أدخل العلاقات التركية المصرية في أزمة استمرت لنحو عقد من الزمن.
ومنذ النصف الثاني من العقد الماضي، بدأت أزمات تركيا مع القوى العربية النافذة مثل مصر والسعودية والإمارات بالتفاقم أكثر بعد أن وقفت إلى جانب قطر في الأزمة الخليجية، ثم اندلاع أزمة مع السعودية على خلفية قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول، وبعدها معارضة أنقرة الشديدة لاتفاقيات السلام التي أبرمتها الإمارات والبحرين مع إسرائيل وصولاً إلى الدعم العسكري التركي لحكومة الوفاق الوطني الليبية في عام 2019 لصد هجوم الجنرال خليفة حفتر على العاصمة طرابلس، والذي أدى إلى تحول ليبيا إلى ساحة صراع بالوكالة بين تركيا من جهة وكل من مصر والإمارات من جهة ثانية. إن العوامل التي أدّت لهذا الاضطراب الكبير في علاقات تركيا مع هذه القوى الفاعلة مُتعددة وترتبط في جانب برهان أنقرة في بدايات “الربيع العربي” على أنه سيؤدي إلى تغيير وجه العالم العربي، وفي جانب آخر بالمنافسة الإقليمية التي ظهرت خلال العقد الماضي. حقيقة أن الرهان التركي على تحولات “الربيع العربي” أصيب بانتكاسة كبيرة منذ الإطاحة بحكم مرسي في مصر عام 2013، ساهمت إلى حد كبير في بدء عملية تشكل إدراك تركي أعمق للواقع العربي، مع أن هذا الإدراك لم تظهر نتائجه بوضوح سوى في نهايات العقد الماضي.
وهنا تبرز أهمية التحولات الإقليمية الكبيرة التي بدأت بالظهور منذ عام 2020 كعامل في عملية استكمال نُضج هذا الإدراك، عندما شرعت القوى الإقليمية الفاعلة في إعادة تشكيل سياستها والتحول من المنافسة إلى التهدئة ومن ثم إعادة إصلاح العلاقات فيما بينها. وهذه التحولات كانت نتيجة لعاملين أساسيين، أولهما وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى السلطة في الولايات المتحدة، والذي دفع القوى الإقليمية إلى التقارب كوسيلة تحوط من آثار التحول الأمريكي على الشرق الأوسط، وثانيهما أن أياً من التكتلين الإقليميين الذين ظهرا خلال العقد الماضي، وكانت تركيا تقود أحدهما، لم يتمكنا من حسم المنافسة الإقليمية لصالح أحدهما بوضوح. وكنتيجة لذلك، شرعت أنقرة منذ عام 2020 في إصلاح علاقاتها مع الإمارات ثم السعودية لاحقاً، ثم بعد ذلك مصر وإسرائيل قبل أن تضطرب العلاقات الإسرائيلية التركية مُجدداً بعد حرب السابع من أكتوبر. ومنذ نهاية عام 2022 شرعت تركيا في حوار مع النظام السوري برعاية روسية. مع أهمية هذه العوامل وغيرها في تفسير التحولات التي طرأت على علاقات تركيا الإقليمية منذ عام 2020، إلآّ أن العامل الحاسم الذي أدى في نهاية المطاف إلى هذه الانعطافة في علاقات تركيا مع المنطقة العربية يتمثل في أن أنقرة أضحت أكثر فهماً للعالم العربي.
ويُمكن إرجاع سبب استمرار اضطراب علاقات تركيا مع مصر لنحو عقد إلى أن أنقرة أدركت بشكل متأخر حقيقة الديناميكيات الراسخة التي تتحكم بالواقع السياسي والأمني في المنطقة العربية. وتُشكل الحالة المصرية النموذج الأكثر وضوحاً على الإدراك التركي المتأخر للواقع العربي. عندما يُطيح الجيش المصري برئيس، فهذا يعني أن التحول الناجم عن هذه الإطاحة لن يتراجع. ولو أدركت تركيا هذه الحقيقة منذ البداية، لربما كان من السهل عليها فيما بعد تجنّب الأزمات التي عصفت بعلاقاتها مع دول مثل السعودية والإمارات منذ تلك الفترة بسبب حقيقة أن التحول المصري في عام 2013 كان جزءاً من حالة إقليمية بدأت تتولى زمام المبادرة مع بدء انهيار تحولات “الربيع العربي” وتراجع تيار الإخوان المسلمين. ومنذ عام 2020، بدأت تركيا تُدرك أن الطريق إلى إعادة تطبيع علاقاتها مع القوى العربية المعارضة للإخوان المسلمين، تبدأ بإبعاد نفسها عن الجماعة. ولهذه الغاية، شرعت أنقرة في تقويض النشاط السياسي والإعلامي لجماعة الإخوان المصرية على أراضيها.
وبالنسبة لسوريا، فإن العوامل التي أدّت لإحداث تحولات في سياسة تركيا في الصراع السوري، مختلفة عما هو الوضع عليه بالنسبة للعلاقات مع كل من مصر والإمارات والسعودية، لكنّها في نهاية المطاف تشكلت كنتيجة لفهم تركيا أوضح للحالة السورية. لم يعد هدف الإطاحة بنظام الأسد قابلاً للتحقيق بأي حال خصوصاً بعد التدخل العسكري الروسي في الصراع عام 2015، وتراجع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية عن مواصلة تسليح المعارضة السورية. كما أن الارتدادات الكبيرة التي خلّفها الصراع السوري على تركيا على صعيد الأمن وملف اللاجئين، ساعدت أنقرة في حقبة ما بعد 2015 في تشكيل فهم أوضح لديناميكيات الصراع السوري. لا تزال أنقرة تُقدم نفسها على أنه الحليف الوحيد المتبقي للمعارضة السورية، لكنها بدأت تحصر اهتماماتها في سوريا بمكافحة الإرهاب المتمثل بحزب العمال الكردستاني وفرعه السوري الوحدات الكردية، وباستخدام وجودها العسكري في شمال سوريا كوسيلة ضغط للدفع باتجاه تسوية سياسية للصراع السوري عوضاً عن الإطاحة بنظام الأسد.
من خلال المصالحات التي أبرمتها مع مصر والإمارات والسعودية، تُقدم تركيا اليوم نفسها للعالم العربي على أنها قوة استقرار ووسيط للقوة في المنطقة. إن الإدراك التركي للواقع العربي بعد عقد من الاضطرابات التي استنزفت علاقات تركيا مع القوى النافذة في المنطقة العربية، مُصمم ليس فقط من أجل إعادة تصفير المشكلات مع المنطقة العربية، بل أيضاً كنقطة توازن بين الاندفاعة التي ساعدت انقرة خلال العقد الماضي في التحول إلى قوة إقليمية فاعلة في الجغرافيا السياسية الإقليمية المحيطة بها جنوباً، وبين إعادة ضبط علاقاتها الإقليمية لتعزيز دورها في الشرق الأوسط الجديد ما بعد حقبة الربيع العربي.