منذ أن شكّلت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً كبيراً للقضاء على تنظيم داعش في سوريا والعراق في عام 2014، بدأت واشنطن بتأسيس وجود عسكري لها في شمالي سوريا. وعلى الرغم من أن الأهداف المُعلنة لهذا الوجود تمثّلت في البداية بالقضاء على دولة داعش قبل أن تتحول بعد انهيار التنظيم إلى مواجهة مخاطر عودته من جديد، إلا أن النتائج، التي بدت على أنها آثار جانبية للأهداف الأميركية المُعلنة، سُرعان ما أصبحت أكثر أهمية وتأثيراً في مسار الصراع السوري من الأهداف المُعلنة. بالطبع، لم يكن بالإمكان تصور انهيار دولة داعش في سوريا والعراق بدون التدخل العسكري للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة. مع ذلك، لم يكن بالإمكان أيضاً تصور أن وحدات “حماية الشعب” الذراع السورية لحزب “العمال الكردستاني” الانفصالي، بمقدورها تأسيس ما يُسمى بالإدارة الذاتية والسيطرة على مساحات واسعة من الشمال السوري وتعزيز قدراتها العسكرية على نحو كبير لولا الدعم الأميركي لها. وإذا ما أردنا تقييماً موضوعياً لنتائج الوجود الأميركي في سوريا، فإننا نصل إلى نتيجتين متناقضتين. لقد لعبت الولايات المتحدة دوراً محورياً في التخلص من أحد إفرازات الصراع في سوريا والمتمثل بداعش، لكنّها ساهمت في المقابل في تعزيز إفراز آخر للصراع عبر تمكين الحالة الكردية المسلحة، والذي سُرعان ما دفع تركيا إلى الانخراط العسكري في سوريا.
استعرضت هاتين النتيجتين لأنهما تُساعدان أولاً في فهم دوافع أخرى أكثر أهمية من الدافع المُعلن للوجود العسكري الأميركي في سوريا، وثانياً في فهم الأسباب التي تجعل الولايات المتحدة اليوم لا تمتلك رفاهية الخيارات في تقرير مستقبل بقائها العسكري في هذا البلد. وفي الواقع، ساهمت واشنطن بنفسها في خلق هذا المأزق الاستراتيجي الذي تواجهه في سوريا بعد ما يقرب من ثلاثة عشر عاماً على اندلاع الحرب. فمن جانب، أدى التخلي الأميركي السريع عن هدف الإطاحة بنظام بشار الأسد إلى خلق فراغ كبير استفادت منه كل من روسيا وإيران لعكس مسار الصراع لصالح النظام. ولم يعد بمقدور الولايات المتحدة اليوم فعل شيء يُذكر في الصراع بعد هذه التحولات. ومن جانب آخر، رهنت واشنطن مستقبل دورها في سوريا بالتحالف مع الوحدات الكردية. ولأن فراغ الدور الأميركي والتحالف مع الوحدات الكردية لعبا دوراً محورياً في دفع تركيا إلى الانخراط مع روسيا وإيران في منصة أستانا منذ عام 2017 ثم تطوير هذه المنصة إلى آلية رباعية مع النظام مُصممة بشكل أساسي لتقويض الوجود الأميركي في سوريا، فإن واشنطن لم تترك لنفسها رفاهية الخيارات. لذلك، فإن الحديث الآن عن احتمال انسحاب الولايات المتحدة من سوريا في ضوء تقرير مجلة “فورين بوليسي” الأخير، يعكس بدرجة أساسية المأزق الذي صنعته واشنطن لنفسها في سوريا.
حقيقة إن الحديث عن احتمال الانسحاب الأميركي يأتي في ظل الاضطرابات الإقليمية الراهنة الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي دفعت الولايات المتحدة إلى التورط عسكرياً في هذه الاضطرابات وقبيل أشهر قليلة من الانتخابات الرئاسية الأميركية تجعل دوافع إثارة هذا النقاش الآن مرتبطة بشكل مباشر في الظروف الإقليمية بقدر أكبر من ارتباطها بسياسة الولايات المتحدة في سوريا. مع الأخذ بعين الاعتبار التأثيرات السلبية للتورط العسكري الأميركي في اضطرابات الشرق الأوسط الراهنة على فرص الرئيس بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة، يُمكن النظر إلى إثارة هذا النقاش على أنه محاولة للحد من هذه التأثيرات. لأن الناخب الأميركي لا يُريد أن يرى بلاده تستنزف المزيد الأموال والجهود العسكرية على صراعات بعيدة عنه ولا تعنيه، فإن الرئيس بايدن يُدرك هذه الحساسية. مع ذلك، فإنه حتى لو كانت الإدارة الأميركية تُضلل الرأي العام الداخلي من خلال الإيحاء بأنها لم تعد مهتمة بالبقاء العسكري في سوريا وبأنها تسعى أيضاً للانسحاب من العراق، فإن الظروف المصاحبة للوجود العسكري الأميركي في كلا البلدين لم تعد مُساعدة لواشنطن للاحتفاظ بوجودها لفترة طويلة.
علاوة على أن صراع الوكالة الذي تخوضه إيران ضد هذا الوجود يستنزف القدرات العسكرية للولايات المتحدة في البلدين، فإن واشنطن تتعامل اليوم مع شرق أوسط جديد أكثر عداءً لها. ليست إيران وحدها من تُريد خروج الولايات المتحدة من سوريا والعراق. فتركيا، التي كانت لعقود طويلة أحد أهم حلفاء واشنطن في المنطقة، تُطالب بانسحاب الولايات المتحدة من سوريا وإنهاء علاقتها بوحدات حماية الشعب الكردية. كما أن روسيا تنخرط مع تركيا وإيران لتقويض الحضور الأميركي في الشرق الأوسط عموماً وسوريا والعراق على وجه الخصوص. يُضاف إلى ذلك أن الحلفاء المتبقيين للولايات المتحدة في المنطقة كدول الخليج، لم يعودوا يثقون بالدور الأميركي في المنطقة. ورفضهم الانخراط في الحملة العسكرية التي تشنها الولايات المتحدة ضد جماعة الحوثي في اليمن لوقف هجماتها في البحر الأحمر تعكس تراجع الثقة بواشنطن.
إن الضغط العسكري الذي تواجهه الولايات المتحدة لسحب قواتها من العراق، لا يُساعدها في الحفاظ على وجودها العسكري في سوريا لفترة طويلة، حيث ستواجه صعوبة في تقديم خدمات التموين والتعزيز والدعم اللوجستي لقواتها في سوريا دون امتلاك إمكانية استخدام الأراضي العراقية لهذا الغرض. مع ذلك، من غير المرجح أن تتنازل الولايات المتحدة عن وجودها العسكري في العراق بشكل كامل وقد تطمح إلى الحفاظ على وجودها العسكري في إقليم كردستان العراق من خلال التوافق مع حكومة أربيل. لكنّ مثل هذا الاتفاق علاوة على أنه لن يمنع الجماعات المدعومة من إيران من مواصلة استهداف القوات الأميركية في شمالي العراق، فإنه سيؤدي إلى أزمة كبيرة بين أربيل وبغداد.
لم يعد لدى الولايات المتحدة هامش لمواصلة وجودها العسكري في سوريا والعراق إلى أمد غير مُحدد. قد تسعى واشنطن إلى التوصل إلى تفاهمات مع كل من بغداد ودمشق تُتيح لها استخدام قوتها الجوية في حال عاد تنظيم داعش للظهور في كلا البلدين بعد الانسحاب العسكري، لكنّ فرص قبول بغداد ودمشق بذلك تبدو ضعيفة أيضاً.
أما العامل الأكثر أهمية الذي يضغط على مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سوريا والعراق فيتمثل باحتمال عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد الانتخابات الرئاسية. خلال ولاية ترامب السابقة، عملت واشنطن على خفض وجودها العسكري في سوريا لما يقرب من تسعمئة جندي. ومن المرجح أن يعمل ترامب في حال عودته إلى البيت الأبيض على إنهاء الوجود العسكري في سوريا. مع تحول الشرق الأوسط بشكل متزايد إلى منطقة معادية للوجود الأميركي، فإن خيارات الانسحاب العسكري من سوريا والعراق لن تتعلق فقط بمستقبل الدور الأميركي في هذين البلدين، بل أيضاً بمستقبل الدور الأميركي في الشرق الأوسط. حتى في الوقت الذي أدت فيه حرب غزة إلى إعادة تجديد الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، فإن التحديات العسكرية والجيوسياسية المتصاعدة في وجه الولايات المتحدة في المنطقة، وتصاعد دور الصين وروسيا تقوض من قدرة واشنطن على إعادة ترميم حضورها في الشرق الأوسط كقوة عالمية مُهيمنة في الجغرافيا السياسية للمنطقة.
إن التساؤل الأكثر أهمية حول مستقبل الوجود العسكري الأميركي في سوريا يدور حول الفراغ الهائل الذي سيُشكله انسحاب محتمل من البلاد. لا يزال الانسحاب العسكري الأميركي المذل من أفغانستان حاضراً في الأذهان. ولكي تتجنب الولايات المتحدة تكرار مثل هذا السيناريو في سوريا، فإنه سيتعين عليها أن تكون أكثر واقعية بشأن مقاربة دورها المستقبلي في سوريا وعلاقاتها مع تركيا على وجه الخصوص إذا ما أرادت الحد من الفراغ الذي سيُخلفه انسحابها على مصالحها المستقبلية في سوريا وعلى صورتها المتزعزعة أصلاً في الشرق الأوسط.