أنقرة وواشنطن تسعيان لإعادة تشكيل علاقاتهما

بعد سنوات من الاضطرابات الشديدة بين تركيا والولايات المتحدة وانعدام الثقة بينهما، تخلق عملية المساومة بين عضوية السويد في الناتو وصفقة مقاتلات إف ستة عشر فرصة للبلدين للخروج من النفق ومحاولة إعادة تشكيل علاقاتهما من جديد.

مع مصادقة البرلمان التركي على عضوية السويد في حلف شمال الأطلسي الناتو، يكون الرئيس رجب طيب أردوغان قد قرر إنهاء إحدى أكبر مناوراته مع الغرب منذ سنوات، والتي أطلقت العنان لعمليات مساومات مُتعددة ومُعقدة بين أنقرة وبعض العواصم الغربية على رأسها واشنطن في قضايا أخرى بعيدة غير توسيع الناتو. لسنوات طويلة، كانت تركيا عاجزة عن دفع الدول الغربية إلى الإنصات لقائمة مظالمها الطويلة معهم. من علاقات هذه الدول مع منظمات تُصنفها أنقرة إرهابية كحزب العمال الكردستاني الانفصالي وفرعه السوري الوحدات الكردية، إلى الحظر الذي فرضته بعض الدول الغربية على بعض صادرات الأسلحة إلى تركيا منذ عام 2019، وصولاً إلى تردد الولايات المتحدة في بيع تركيا دفعة جديدة من مقاتلات إف ستة عشر. ولأن أردوغان بارع في التقاط الفرص، فإنه وجد الحرب الروسية الأوكرانية التي أظهرت القيمة الجيوسياسية الثمينة لتركيا وحاجة الناتو للتكيف مع الحقبة الأمنية الجديدة في أوروبا بعد الحرب، فرصة لتحقيق ما عجز عنه في الماضي. ومع استثناء مصير صفقة بيع تركيا مقاتلات إف ستة عشر الأمريكية، والتي من المفترض أن تكون تحصيلاً حاصلاً بعد المصادقة التركية على عضوية السويد، فإن أردوغان نجح في تحقيق معظم أهداف مناورته الأخيرة مع الغرب وأظهر مُجدداً أنه يُتقن فن المقايضات في السياسات الخارجية. 

مع ذلك، فإن حقيقة أن أردوغان اضطر إلى التنازل عن شرط تمرير الكونغرس الأمريكي صفقة المقاتلات قبل مصادقة البرلمان التركي على عضوية السويد تُظهر أيضاً أن مناوراته لها حدود أيضاً. كانت أنقرة تُراهن على عامل الوقت في عملية المساومة مع واشنطن للمزامنة بين تمرير الصفقة والمصادقة على عضوية السويد. ومع أن هذه المزامنة لم تحصل تماماً كما كانت تأمل تركيا، إلآّ أن العبرة في الخواتيم. وعلى ضوء الخطوات المنتظرة من واشنطن بعد الآن بخصوص صفقة المقاتلات، ستتحدد نتيجة المساومة التركية الأمريكية. إن إطالة تركيا لعملية المصادقة البرلمانية على عضوية السويد، لم تكن مسألة فنية أو تتعلق بالبيروقراطية السياسية بقدر ما أنها عكست الكيفية التي تحولت فيه أزمة عضوية فنلندا والسويد منذ البداية إلى لعبة مساومة دبلوماسية كبيرة بين أنقرة وواشنطن. ولأن مستوى الثقة المتدني في العلاقات التركية الأمريكية منذ سنوات والتوترات الجديدة التي أضافتها الحرب الإسرائيلية على غزة والصراع التركي مع حزب العمال الكردستاني الانفصالي وفرعه السوري الوحدات الكردية، فإن لعبة المساومة واجهت تعقيدات كبيرة ولم تخلو من المخاطر على الطرفين. 

هناك أربعة أسباب رئيسية تُساعد في فهم اتخاذ تركيا الخطوة النهائية الحاسمة نحو إتمام عملية المصادقة على عضوية السويد قبل تمرير الولايات المتحدة صفقة مقاتلات إف ستة عشر، وهي تعكس في الغالب حسابات المكاسب والمخاطر التي واجهتها مناورة أردوغان مع الغرب. أولاً، لعبت الضمانات التي قدّمتها إدارة الرئيس جو بايدن مؤخراً لتركيا بخصوص صفقة المقاتلات دوراً حاسماً في تشجيع أنقرة على المضي قدماً على عملية المصادقة على عضوية السويد. وأحد الأسباب المُقنعة التي قدّمتها الإدارة الأمريكية بهذا الخصوص هي أنه لن يكون بمقدورها ضمان تأييد أعضاء الكونغرس المعارضين لصفقة المقاتلات قبل مصادقة تركيا على عضوية السويد. وبالتوازي مع ذلك، كان أردوغان يتحرك أيضاً على مسار آخر لتسهيل تمرير صفقة المقاتلات من خلال الزيارة التاريخية التي أجراها مؤخراً إلى اليونان، والتي من المفترض أن تُشكل حافزاً آخر للكونغرس الأمريكي لتمرير الصفقة. ثانياً، تبرز المزايا التي يتطلع إليها أردوغان في الوقت الراهن كسبب آخر للموافقة على دخول السويد إلى الناتو. بالإضافة إلى المكاسب العسكرية الكبيرة التي ستحصل عليها تركيا من الحصول المفترض على الدفعة الجديدة المحدثة من مقاتلات إف ستة عشر، فإن أردوغان سيكون بمقدوره تسويق هذه الصفقة والمكاسب الأخرى التي انتزاعها من السويد والدول الغربية الأخرى بخصوص التعاون في مكافحة الإرهاب ورفع العقوبات على صادرات الأسلحة لتركيا، على أنها إنجاز جديد له في السياسة الخارجية قبيل الانتخابات المحلية المقررة في نهاية مارس آذار المقبل. 

ثالثاً، على الرغم من أن قضية عضوية السويد منحت أنقرة ورقة ضغط كبيرة على الغرب، إلآّ أنها عقّدت في المقابل من جهودها لتحسين العلاقات مع الغرب بعد فوز أردوغان بولاية رئاسية ثالثة وتوفير بيئة مناسبة لجذب الاستثمارات الغربية لمواجهة الصعوبات الاقتصادية التي تُعانيها تركيا في الوقت الراهن. والافتراض الآن أن إزالة قضية السويد من أجندة الخلافات التركية الغربية سيُساعد أردوغان في تحقيق هذا الهدف. أما السبب الرابع فيتمثل في الموازنة الدقيقة التي يسعى أردوغان لتكريسها في علاقات تركيا مع كل من الغرب وروسيا. حقيقة أن المصادقة على عضوية السويد تأتي قبل أسابيع قليلة من الزيارة المرتقبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة تعكس كيف أن تركيا تُحاول إرسال رسالة للغرب وموسكو على حد سواء بأن موازنتها بين الطرفين لن تكون على حساب التزامها بدورها النشط في حلف الناتو وعلى حساب هويتها الجيوسياسية كجزء من المنظومة الغربية حتى في الوقت الذي يعمل فيه أردوغان على تحقيق هامش من الاستقلالية في السياسة الخارجية عن الغرب في بعض القضايا.

وبمعزل عن هذه الأسباب والمكاسب التي حققتها تركيا من مناورتها في قضية توسيع الناتو، إلآّ أن المصادقة على عضوية السويد تبقى محفوفة بالمخاطر إذا لم تفي إدارة بايدن بوعودها بشأن تمرير صفقة مقاتلات إف ستة عشر. مع ذلك، يظهر أن أردوغان اختار قبول هذه المخاطرة على تجنب مخاطر استمرار هذه الأزمة لفترة أطول على صعيد علاقات أنقرة بالغرب. إن إنجاح عملية المساومة بين أنقرة وواشنطن في ملفي عضوية السويد وصفقة المقاتلات لا تقتصر أهميته فحسب على صعيد إتمام عملية توسيع الناتو ومعالجة بعض المظالم التركية مع الغرب فحسب، بل يمكن أن يؤدي إلى خلق وضع جديدة في العلاقات التركية الغربية والتركية الأمريكية على وجه الخصوص. والخطوات التي تنتظرها تركيا من إدارة الرئيس جو بايدن بخصوص صفقة المقاتلات ستُحدد ما إذا كانت أنقرة وواشنطن قادرتين على إطلاق بداية جديدة أكثر قدرة على الإنتاج في العلاقات.

إقرأ أيضاً: