لماذا يُطل الإرهاب برأسه من جديد؟

التوقيت الذي اختاره حزب العمال الكردستاني لشن اعتداء أنقرة يتقاطع مع مجموعة من الظروف المتحولة التي تعكس مجتمعة المأزق الكبير الذي يواجه التنظيم.

لا يحتاج الاعتداء الذي نفذته منظمة “بي كا كا” الإرهابية على مقر مديرية الأمن في العاصمة أنقرة نهاية الأسبوع الماضي الكثير من الوقت لمعرفة دوافعه وأهدافه. لدى المنظمة تاريخ حافل بالنشاط الإجرامي واستخدام العنف ضد المدنيين والدولة التركية وهي لم تتخلى يوماً عن هذه الأيديولوجية حتى في الفترة التي حاولت فيها الظهور بأنها تمد يد السلام في الفترة الممتدة بين عامي 2013 و2015. لم تصمد عملية السلام لأكثر من عامين لأن نزعة العنف والإرهاب والانفصالية لدى المنظمة ظلت ببساطة تتفوق على أي شيء آخر. مع ذلك، فإن التوقيت الذي اختارته “بي كا كا” هذه المرة لشن اعتداء أنقرة يستحق التوقف عنده لأنّه يتقاطع مع مجموعة من الظروف المهمة التي تعكس مجتمعة المأزق الكبير الذي يواجه المنظمة.

إذا ما نظرنا إلى حقيقة أن قدرة المنظمة على شن اعتداءات إرهابية داخل تركيا تقلًصت على نحو كبير منذ ذروة موجة الهجمات الإرهابية بين عامي 2015 و2017، بفعل النجاح الأمني والاستخباراتي للدولة التركية في تقويض إمكانات المنظمة وتضييق الخناق على قادتها في شمالي سوريا والعراق، فإنها يظهر لنا بوضوح أن أحد الأهداف الرئيسية للمنظمة في هجوم أنقرة إظهار أنها لا تزال قادرة على إرباك الوضع الأمني في تركيا. رغم ذلك، فإن المنظمة فشلت في إحداث الصدمة الأمنية التي سعت إليها في هذا الهجوم وقبله الاعتداء الإرهابي في إسطنبول قبل نحو عام. في الواقع، يعكس هذا الفشل الصعوبة التي تواجهها قادة المنظمة في جبال قنديل وفي شمالي سوريا، في إعادة تنشيط نشاطها الإرهابي في تركيا. علاوة على أنّها فقدت الكثير من القادة الذين كانوا يرسمون الخطط ويُديرون خلايا المنظمة في الداخل التركي للقيام باعتداءات دموية، فإن النجاح الذي حققته تركيا في مكافحتها للمنظمة في الداخل وفي شمالي سوريا والعراق، جعل من الصعب على المنظمة إعادة تشكيل تمردها على الدولة التركية بالطريقة التي تُريدها.

مع الأخذ بعين الاعتبارات الظروف الموضوعية التي ساعدت تركيا في تغيير ديناميكية صراعها مع الإرهاب في السنوات الأخيرة، إلآّ أنه لا ينبغي أيضاً تجاهل الظروف السياسية الداخلية التي تدفع منظمة “بي كا كا” إلى محاولة إرباك الوضع الأمني في تركيا. أظهرت انتخابات مايو فشل رهان المنظمة بشكل ذريع على إحداث تغيير سياسي من خلال إبداء الدعم الصريح لمرشح المعارضة للرئاسة كمال قليجدار أوغلو. كما انعكس هذا الفشل تراجعاً على مستوى التأييد الشعبي بين أكراد تركيا لحزب الشعوب الديمقراطي الذي تستخدمه منظمة “بي كا كا” كمنصة للتأثير في ديناميكية السياسة الداخلية. في ضوء ذلك، يُمكن النظر إلى عودة المنظمة إلى نشاطها الإرهابي في الداخل على أنّه رد فعل على فشلها في التأثير على مسار الحياة السياسية التركية. أطلق الرئيس رجب طيب أردوغان مصطلحاً دقيقاً للغاية في رده على هجوم أنقرة عندما قال إن الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة. لقد أظهر فشل “بي كاكا” في إحداث صدمة أمنية في هجوم أنقرة وقبله هجوم إسطنبول أن نهج العنف لم يعد قادراً على ترهيب تركيا ومحاولة إنهاكها أمنياً من أجل إضعافها.

إن اختيار توقيت هجوم أنقرة في الوقت الذي بدأ فيه البرلمان التركي دورته التشريعية الجديدة يُشير إلى هدف آخر لمنظمة “بي كا كا” الإرهابية” وهو التأثير على محاولات أنقرة والغرب التعاون في مكافحة الإرهاب. حقيقة أن الاستحقاق الأساسي الذي ينتظر البرلمان يتعلق بملف المصادقة على عضوية السويد في حلف الناتو، تُظهر أن المنظمة سعت من خلال اعتداء أنقرة إلى إحراج ستوكهولم والولايات المتحدة اللتين تسعيان إلى إقناع تركيا بالمصادقة على عضوية السويد مقابل وعود بتبني نهج أكثر صرامة يراعي حساسية تركيا تجاه الإرهاب. إن هذه النتيجة هي من صنع الغرب نفسه الذي لم يستطيع امتلاك بصيرة كافية لإدراك عواقب التساهل مع نشاط منظمة “بي كا كا” على أراضي بعض الدول الغربية بذريعة حرية التعبير على علاقته بتركيا. إن مسارعة الدول الغربية إلى التنديد بإرهاب منظمة “بي كا كا” لا يُعفيها من المسؤولية في جعل التنظيم يشعر بأنه لا يزال يحظى بالرعاية التي تُساعده في مواصلة نشاطه الإرهابي ضد تركيا.

بات من الواضح أن مصادقة البرلمان التركي على عضوية السويد في حلف الناتو في المستقبل المنظور أصبحت مستبعدة للغاية إن لم تكن مستحيلة في ظل الظروف الحالية وإذا لم يُظهر الغرب الشجاعة الكافية في رفع الغطاء عن نشاط منظمة “بي كا كا” في الدول الغربية وإذا لم تُقدم الولايات المتحدة على فك ارتباطها بمنظمة “واي بي جي” الامتداد السوري لمنظمة بي كاكا. إن الحقيقة التي ينبغي على منظمة “بي كا كا” والدول الغربية إدراكها اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن تركيا أصبحت لها اليد العليا في حربها على الإرهاب وبأنها أصبحت أكثر قدرة على التعامل بفاعلية مع التهديد الإرهابي سواء أراد الغرب التعاون معها في ذلك أم لا.

إقرأ أيضاً: