كانت الحفاوة البالغة التي استقبل بها الرئيس الصيني شي جين بينغ في السعودية الأسبوع الماضي وعقده سلسلة قمم مع القادة الخليجيين والعرب أكبر من مُجرد دلالة على رغبة بكين في تعميق بصمتها في الشرق الأوسط. لقد عكست إلى حد بعيد كيف أن دول المنطقة تسعى للتكيف مع عالم جديد مُتعدد الأقطاب يتشكل مع تنويع شراكاتها الخارجية.
بالنّظر إلى تزايد أهمية منطقة الخليج في الجغرافيا السياسية الإقليمية خلال العقد الأخير وتصاعد تأثيرها في نظام الطاقة العالمي بعد الحرب الروسية الأوكرانية، فإنها أضحت محط اهتمام متزايد بالنسبة لكل من الصين وروسيا.
لكن دوافع الخليج في توثيق شراكته مع هاتين القوتين لا ترتبط فحسب بمصالح اقتصادية وتجارية وبالحاجة إلى التفاعل المرن مع طموحاتهما العالمية المتزايدة، بل تتعلق أيضاً بتراجع الشراكة الخليجية الأميركية. في حين أن الاضطرابات الراهنة في العلاقات السعودية الأميركية تبدو السبب الرئيسي لتدهور هذه الشراكة، إلا أن التحولات الكبيرة التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة جعلتها أقل قدرة على التكيف مع عالم متغير.
ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى أن قاعدة الأمن مقابل النفط، التي أدارت الشراكة الأميركية الخليجية على مدى 8 عقود، تراجعت على نحو كبير، ولم تعد الولايات المتحدة راغبة بمواصلة التزامها الأمني التقليدي تجاه الخليج بفعل تبدل أولوياتها الخارجية، كما لم تعد المستهلك الأول للنفط الخليجي.
هذه التحولات أفسحت المجال أمام الصين وروسيا لتعميق بصمتهما في الشرق الأوسط عبر إقامات شراكات متعددة مع الفاعلين الإقليميين. فمن جانب، أقامت موسكو وبكين علاقات قوية مع إيران، كما عمقت موسكو شراكتها الجيوسياسية مع تركيا.
من جانب آخر، أضحت الصين أكبر مستهلك للنفط الخليجي، بينما وثقت روسيا تعاونها النفطي مع السعودية والإمارات ضمن تحالف أوبك بلس الذي يخوض صراعاً مع المستهلكين الغربيين على فرض قواعد لتسعير النفط. يعزز هذا المسار قادة شرق أوسطيون يطمحون لإيجاد هامش من الاستقلالية في سياساتهم الخارجية عن الولايات المتحدة للعب دور أكبر في إدارة الحالة الإقليمية باعتماد أقل على واشنطن.
لكن الشراكات الجديدة مع قوى كروسيا والصين لا يمكن أن تعوض بالكامل الفراغ الأمني الذي تتركه أميركا في المنطقة، مما يضغط على الفاعلين الإقليميين لإيجاد نوع من الموازنة.
على عكس تركيا وإيران اللتين استطاعتا تطوير قدراتهما العسكرية في العقدين الأخيرين، وأصبحتا أكثر اعتماداً على نفسيهما، فإن دول الخليج تفتقر إلى المقومات العسكرية الذاتية ولا تزال تعتمد على الشراكة الأمنية مع الولايات المتحدة. بيد أن الاندفاعة الروسية الصينية في الشرق الأوسط تُشكل فرصة للدول الخليجية لبعث رسالة واضحة لواشنطن بأنها قادرة على إيجاد شركاء آخرين عندما تتردد الولايات المتحدة في مواصلة التزامها الأمني تجاه الخليج.
كنتيجة لاتجاه الولايات المتحدة إلى تخفيف ارتباطها بالمنطقة بفعل أزماتها الداخلية وتحول أولوياتها الخارجية، فإن دول الخليج تجد نفسها أمام خطر انكشاف إستراتيجي. حقيقة أن الشراكة الخليجية المتنامية مع روسيا والصين لا تزال ترتكز على القضايا النفطية والاقتصادية، فإنها لن تعوض بعض الفراغات الناشئة في الشراكة مع الولايات المتحدة. سيتعين على صناع القرار الخليجيين التعامل بحذر شديد مع نهجهم الجديد في صياغة شراكات خارجية مع قوى عالمية أخرى وما يحمله من مخاطر.
لا تُبدي الولايات المتحدة تسامحاً مع السعودية في تحالفها النفطي مع روسيا، وقد لوّحت مؤخراً بفرض إجراءات عقابية عليها كرد على تخفيض الإنتاج، رغم أن واشنطن لا تزال تتعامل بحذر مع العواقب المحتملة. كما أن مساعي الغرب لخنق قطاع النفط الروسي يجعل التعاون النفطي بين موسكو والرياض تحت المجهر الغربي أكثر من أي وقت مضى.
بالنسبة للصين، فإن الشراكة التي تسعى بكين لتطويرها مع المنطقة ليست مدعاة للقلق إن بقيت محصورة في مجال الطاقة الذي يُشكل صميم العلاقة بين الجانبين. مع ذلك، فإن الاتجاهات تُشير إلى أن هذه الشراكة قد تمتد إلى مجالات إستراتيجية أخرى كالتعاون الدفاعي وقطاع التكنولوجيا ذات الحساسية العالية في التنافس الصيني الأميركي.
لا تُخفي دول الخليج رغبتها في الوصول إلى هواوي عملاق الاتصالات الصيني الخاضع للعقوبات الأميركية، وتسعى للتعامل مع شركات الذكاء الاصطناعي الصينية التي وضعت واشنطن بعضها كشركة سانس تايم على القائمة السوداء.
سبق أن أعلنت شركة مملوكة لصندوق الثروة السيادية في السعودية عن مشروع مشترك بقيمة 207 ملايين دولار مع سانس تايم لبناء مختبر للذكاء الاصطناعي في المملكة. أيضاً، باعت الصين طائرات مسلحة مسيرة للإمارات. علاوة على ذلك، وقعت شركة سعودية في مارس/آذار الماضي صفقة مع عملاق دفاعي صيني مملوك للدولة لتصنيع طائرات مسيرة في المملكة. مع ذلك، يُصر المسؤولون السعوديون على أن الشراكة مع الصين لا تستهدف الولايات المتحدة. يبدو هذا التفسير معقولاً بعض الشيء.
لكنّه في زمن التنافس الحاد بين القوى العظمى، يصعب على واشنطن تقبل أن يقوم حلفاؤها في الخليج بمواصلة شراكة نفطية مع روسيا تزيد من قدرة بوتين على مواجهة العقوبات الغربية، أو توثيق علاقة مع الصين تمنحها هامشاً أكبر للظهور كفاعل دولي بارز على الساحة العالمية.
رغم التطمينات العديدة التي حاول المسؤولون الأميركيون تقديمها إلى الخليج بشأن الشراكة الأمنية، فإن دول الخليج بدت أكثر قناعة بأن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل عبء أمني أكبر في المنطقة حتى لو رغبت في ذلك، مما يترك لدول المنطقة القليل من الخيارات. نتيجة لذلك، يسعى عدد متزايد من شركاء الولايات المتحدة كالخليج وتركيا إلى تجنب الانخراط في عملية التنافس بين القوى الكبرى والحفاظ على قدر متوازن من العلاقات معها. ليس الهاجس من المستقبل وحده ما يدفع حلفاء أميركا في الشرق الأوسط إلى الحذر.
في الواقع، تتعزز نظرة في المنطقة بأن الصراع بين القوى الكبرى يُشكل فرصة لها لإيجاد وضع استثنائي خاص بها في العالم الجديد على قاعدة التوازن في السياسات الخارجية. تركيا على سبيل المثال تريد الانضمام إلى منظمة شنغهاي للتعاون بينما تتمسك بشراكتها العضوية مع الغرب ضمن المنظومة الأطلسية، بينما ترغب السعودية ومصر في الانضمام إلى منظمة بريكس وتتمسكان بحد واقعي من الشراكة مع الولايات المتحدة.
إن نهج الموازنة الذي تتبعه القوى الفاعلة في الشرق الأوسط يُتيح لها هامشاً أكبر من التحرّك لتجنب الانخراط في تنافس القوى العظمى على حساب مصالحها الوطنية. على عكس الولايات المتحدة، تترك روسيا والصين هامشاً لهذه القوى للتحرك ضمن سياسات خارجية متوازنة مما يجعل الشراكة معها عاملاً جذاباً لدول المنطقة. موسكو على سبيل المثال لا تشترط على أنقرة التخلي عن علاقاتها مع الغرب مقابل الشراكة الجيوسياسية معها. والحال نفسه ينطبق على الصين التي لا تمارس ضغطاً على الخيارات الجيوسياسية لدول المنطقة.
هذا الوضع يجعل التكاليف على الولايات المتحدة لإعادة إخضاع حلفائها بالطريقة التي اعتادت عليها غير عملية وتنطوي على مخاطر. أدى الضغط الأميركي على تركيا إلى تعميق شراكتها الجيوسياسية مع روسيا، كما أن تلويح واشنطن بفك الارتباط الأمني مع الخليج يفقد ثقة الخليجيين بها ويجعلهم أكثر اهتماماً بالصين وروسيا. سيتعين على واشنطن التعامل بمرونة مع الوضع الجديد لأن مطالبة الحلفاء بالولاء يترتب عليه تقديم ضمانات أمنية صعبة.
رغم ذلك، يُمكن لصناع القرار الأميركيين التقليل من قيمة الشراكات المتنامية لدول المنطقة مع روسيا والصين من خلال التخلي عن نهج تخييرها بين الشرق والغرب والحفاظ على حد واقعي من الالتزام في المنطقة. عكس ذلك سيزيد من سوء الوضع على الولايات المتحدة ويجعل الشرق الأوسط أكثر عدائية تجاهها.