قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الإثنين 24 مايو إن بلاده ستشن قريبا هجوماً عسكريا جديدا ضد وحدات حماية الشعب الكردية المدعومة من الولايات المتحدة في شمال سوريا. وأضاف أردوغان إن العملية ستوسع مناطق سيطرة القوات المسلحة التركية في سوريا إلى عمق 30 كيلومترا على طول الحدود المشتركة بين البلدين. يأتي التلويح الجديد بالعملية العسكرية في الوقت الذي أبدت فيه أنقرة معارضة انضمام السويد وفنلندا للانضمام إلى حلف الناتو رداً على دعم البلدين للوحدات الكردية واحتضان مؤيدين لتنظيمات تصنفها أنقرة إرهابية كحزب العمال الكردستاني وتنظيم فتح الله غولن، فضلاً عن العقوبات التي فرضها البلدان على تركيا عقب هجومها في سوريا في 2019.
يُقدم مركز تحليل السياسات قراءة لدوافع تركيا في شن هجوم جديد ضد الوحدات الكردية والأهداف التي تسعى لتحقيقها وتأثيرها المحتمل على العلاقات التركية الغربية والتركية الروسية.
بادئ ذي بدء، فإن الرغبة التركية بتوسيع حدود المناطق الآمنة التي أنشأتها منذ عام 2016 في شرق وغرب الفرات، ليست جديدة، لكنّ الظروف لم تكن مناسبة لفعل ذلك منذ آخر عملية عسكرية في 2019. عندما أطلقت أنقرة عملية نبع السلام، لم تستطيع توسيع حدود هذه المنطقة أكثر من المساحة بين مدينتي رأس العين وتل أبيض بسبب الضغوط الأمريكية والغربية والروسية الكبيرة التي مورست عليها في تلك الفترة. في أكتوبر تشرين الأول الماضي، صعّدت وحدات حماية الشعب الكردية من هجماتها على المناطق التي تُديرها تركيا في شمال سوريا. في العاشر من الشهر نفسه، أعلنت السلطات التركية مقتل شرطيين اثنين في هجوم للوحدات على منطقة درع الفرات، ليخرج أردوغان بعد ذلك ويتوعد الوحدات الكردية بشن عملية عسكرية جديدة ضدّها.
- شنت تركيا في 2016 أول عملية عسكرية في شمال سوريا أطلقت عليها درع الفرات
- في 2019 شنت تركيا عملية جديدة ضد الوحدات الكردية في شرق الفرات وأنشأت منطقة آمنة جديدة
- في الأشهر الأخيرة لوحت أنقرة مرارا بشن هجوم جديد لكنها سعت لتجنب أي ضغوط غربية جديدة عليها
ومنذ أن تصاعد الحديث التركي عن العملية، شرعت أنقرة وموسكو في مفاوضات على أكثر من مستوى للتوصل إلى تفاهم حول هذه المسألة وسافر أردوغان إلى سوتشي للقاء بوتين. كما استضافت أنقرة بعد ذلك اجتماعات تركية روسية على مستوى الدبلوماسيين وتناولت قضايا مشتركة بينها الملف السوري. أثمر هذا التواصل تهدئة في الشمال السوري، لكنّه لم يتمكن حتى الآن من التوصل إلى تفاهم بين الجانبين حول مستقبل الوحدات الكردية. وفي ختام الجولة السابعة عشرة من محادثات أستانة، أصدرت كل من روسيا وتركيا وإيران بياناً مشتركاً أكّدت فيه دعمها لوحدة الأراضي السورية ورفض كل محاولات تشكيل واقع جديد على الأرض وأعربت عن قلقها من دور وحدات حماية الشعب الكردية في شرق الفرات واصفة إياها بالجماعات الانفصالية. منذ دخول تركيا في تفاهم مع روسيا وإيران لإدارة تضارب المصالح بينهم في الشمال السوري قبل أربعة أعوام، تبنت موسكو خطاباً يراعي الهواجس التركية إزاء الوحدات الكردية. لكنّها في المقابل، كانت تعارض أي تحرك عسكري تركي ضدّها بالنّظر إلى محاولتها رسم حدود للدور العسكري التركي في الصراع السوري. كما أنها في الوقت نفسه كانت حذرة من أن يؤثر دعمها لأي تحرك عسكري تركي على قنوات التواصل التي فتحتها مع الوحدات بهدف إدخالها في حوار مع دمشق.
هناك نقطة وحيدة تلتقي فيها مصالح البلدان الثلاثة بخصوص الوحدات الكردية وهي الإجماع على معارضة مشروعها الانفصالي وإخراج الولايات المتحدة من معادلة الصراع في الشمال السوري. لكنّ لأنقرة وكل من موسكو وطهران مقاربة مختلفة لكيفية مواجهة هذا المشروع. فبينما تعتمد أنقرة على الخيار العسكري إلى جانب التفاهمات مع الجانبين الروسي والإيراني لتحجيم دور الوحدات الكردية، يسعى الثنائي الروسي الإيراني إلى تقييد الدور العسكري التركي في هذه المسألة، والضغط على الوحدات للدخول في مفاوضات مع النظام. في أربع عمليات عسكرية أطلقتها خلال أربعة أعوام منذ أول تدخل في 2016، تمكّنت تركيا من تحقيق جزء من مشروع المنطقة الآمنة التي سعت لإقامتها على طول الشريط الحدودي مع سوريا. عملية نبع السلام في 2019 كانت الأكثر أهمية واستطاعت فيها الدخول إلى معادلة شرق الفرات. ومنذ وقف العملية بموجب اتفاقين منفصلين أبرمتهما أنقرة مع موسكو وواشنطن، تشهد خارطة الصراع في الشمال السوري جموداً نسبياً تخرقه بين الفينة والأخرى هجمات الوحدات الكردية والرد التركي عليها.
بيد أن محاولات النظام السوري وحلفائه من جهة والوحدات الكردية من جهة ثانية تقييد النفوذ التركي في شرق الفرات وغربه وضعت أنقرة في معادلة تستنزفها بينما هي مُكبلة بتلك التفاهمات. في الثالث عشر أكتوبر الماضي، حمّل وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو روسيا والولايات المتّحدة معاً المسؤولية عن هجمات الوحدات الكردية. كان ذلك لافتاً وغير مسبوق في الخطاب التركي لا سيما أنّه جاء بعد أسابيع قليلة من قمة عقدها أردوغان وبوتين في سوتشي وأكّدا فيها على مواصلة التعاون في سوريا. لم تُخفي أنقرة مراراً امتعاضها من عدم إيفاء روسيا بتعهداتها في اتفاق سوتشي 2019. فرغم تسيير دوريات مشتركة بين البلدين بعمق عشرة كيلومترات على طول الحدود، باستثناء القامشلي، والإبقاء على الوضع ما بين مدينتي تل أبيض ورأس العين، إلاّ أن بنود أخرى في الاتفاق لم تُنفذها موسكو كسحب الوحدات من الشريط الحدودي بشكل كامل وبعمق ثلاثين كيلومتراً، وانسحابها من منبج وتل رفعت غرب الفرات. في المقابل تتهم موسكو أنقرة بعدم تنفيذ التزامها بفصل جبهة النصرة عن المعارضة في إدلب. وضع موسكو وواشنطن في إطار واحد يُفسّر على أنه انزعاج تركيا من تقاطع مصالح روسية أمريكية في الضغط عليها.
لماذا الآن؟
يعتقد الرئيس رجب طيب أردوغان أن الظروف الحالية تبدو مناسبة لشن عملية عسكرية جديدة ضد الانفصاليين الأكراد. فمن جانب، تبدو روسيا مشغولة بأزمتها في أوكرانيا ويتعرض وجودها العسكري في سوريا لضغوط شديدة من جانب تركيا بعد تقييد حركة الأجواء وإغلاق البحر الأسود. ومن جانب آخر، يحتاج الغرب إلى ضمان عدم توتر العلاقات مجدداً مع أنقرة والاستفادة من مزايا أنقرة في استراتيجية احتواء روسيا وتوسيع حلف الناتو. هناك عوامل عديدة تضغط على أنقرة لتوسيع مناطق سيطرتها في شمال سوريا. على المستوى الأمني، سيُساعد توسيع حدود المنطقة الآمنة في شرق الفرات على تقليص المخاطر التي تُشكلها الوحدات الكردية على هذه المنطقة، وتقييد قدرة الإدارة الذاتية الانفصالية. كذلك، يضغط إعادة اللاجئين السوريين على أردوغان لتوسيع المنطقة الآمنة، حيث أن مثل هذا المشروع يتطلب أولاً تأمين المناطق الآمنة المقامة بالفعل، وثانياً توسيع نطاقها لاستيعاب أكبر عدد من اللاجئين. في الداخل أيضاً، ستعود أي عملية عسكرية جديدة في سوريا بالفائدة على شعبية أردوغان مع اقتراب الانتخابات، وهو بحاجة بالفعل لدفعة انتخابية في ظل استطلاعات الرأي التي تتحدث عن تراجع في شعبيته.
روسيا وأمريكا طرفان رئيسيان في هذه المسألة وكلاهما تعارضان أي تحرك تركي جديد لاعتبارات مختلفة. واشنطن لا تُريد التخلي عن ما تبقى ما نفوذها في سوريا، وروسيا تعارض أن توسع تركيا من مناطق نفوذها. أنقرة من جانبها حرصت على الحفاظ على تفاهماتها مع موسكو وتجنبت أيضا الدخول في صدام مع إدارة رئيس متهور لا يمكن التكهن بما يمكن أن يقدم عليه كترامب. لا تزال مقاربة روسيا وتركيا للمسألة السورية مختلفة بشدّة. لكن البلدين تعايشا معها ويجتمعان على هدفين رئيسيين هما إخراج الولايات المتحدة من المعادلة وتحجيم نفوذ الوحدات الكردية. حتى في الهدف الثاني، لكل طرف مقاربته المختلفة عن الآخر. فموسكو تُقر بهواجس تركيا الأمنية لكنها ترى أن عودة الشمال السوري لسيطرة النظام تزيل تلك الهواجس وتضغط أيضا على تركيا لإعادة علاقتها بدمشق. هذه الخيارات لا تبدو مطروحة في أنقرة، أقلّه على المدى المنظور، لأنها ستجعل مصالحها في سوريا رهينة بيد موسكو وطهران. هذا قد يكون أسوأ لها من المشكلة مع الأمريكيين.
خلال العامين المنصرمين، استمرت المناوشات بين الجيش التركي والوحدات الكردية من دون أن تؤدي إلى انهيار وقف إطلاق النار. خلال الأشهر الأخيرة، صعّدت تركيا من عمليات استهداف قادة متوسطين في الوحدات وشقيقها حزب العمال الكردستاني في سوريا والعراق عبر ضربات طائرات بدون طيار. كان هذا التكتيك مفيداً لتركيا على صعيد إضعاف قيادة التنظيمين، لكنّه لم يكن كافياً لها. لا زالت نقطة ضعف تركيا تكمن في عدم اكتمال مشروع المنطقة الآمنة. كما أن مواصلة رضوخها للوضع الراهن لم ولن يؤدي سوى إلى منح خصومها على اختلاف أجنداتهم المزيد من الفرص والوقت لاستنزافها عسكرياً وسياسياً. التحرك العسكري للتخلص من هذه المعضلة أمر مطروح، لكنّه ينطوي على مخاطر الدخول في صدام مع الفاعلين الرئيسيين، روسيا والولايات المتحدة، قبل استنفاذ سبل التفاهم معهما أو مع أحدهما على الأقل.